القطيعة

القطيعة

 

الحمد لله الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا ، وأوجب صلة الأرحام وأعظم في ذلك أجرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أعدها ليوم القيامة ذخرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أعظم الناس قدرًا وأرفعهم ذكرًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بالحق وكانوا به أحرى، وعلى التابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا، أما بعد:

لقد تظاهرت النصوص من الكتاب والسنة في عظم شأن الصلة، وفضلها، والتحذير من القطيعة، قال -تبارك وتعالى- : {وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} (1) سورة النساء.

وقال -عز وجل- : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (22) سورة محمد.

وجاء عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة قاطع).1

كما قرن الله تعالى بين الناقضين للعهود وبين القاطعين لما أمر الله به أن يوصل فقال: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} (27) سورة البقرة.

والمراد بذلك كل ما أمر الله بوصله.2

ومما أمر الله تعالى بوصله: الأرحام والأقارب، ونهى وحذر عن قطيعتهم والإساءة إليهم، وعد صلى الله عليه وسلم قطيعة الأرحام مانعاً من دخول الجنة مع أول الداخلين، ومُصْلٍ للمسيئين لأرحامهم بنار الجحيم.

أيها القاطع:

 أما تعلم أن قاطع الرحم ملعون في كتاب الله: قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}.

قال علي بن الحسين لولده: "يا بني لا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعونا في كتاب الله في ثلاثة مواطن".

وقاطع الرحم من الفاسقين الخاسرين: كما قال الله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ*الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (26-27) سورة البقرة.

وعن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه بالعقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم).3

أخي: أترضى أن لا يرفع لك عمل، فإن القاطع لا يرفع له عمل ولا يقبله الله: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أعمال بني آدم تعرض على الله تبارك وتعالى عشية كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم).4

يا مقطوعاً عن الله: (الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله).5

أيها المسلمون: هذا أبوبكر رضي الله عنه كان ينفق على ابن خالته مسطح بن أثاثة؛ لأنه كان فقيراً، ولما كان حديث الإفك على عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تكلم عنها ابن خالته مع من تكلموا في حقها، فلما بلغ ذلك أبابكر قطع عليه النفقة -وهذا في نظرنا أقل ما يمكن فعله-، ولكن الله سبحانه وتعالى أنزل في ذلك قرآناً كريماً ليسطر لنا مثلاً عظيماً في التعامل الاجتماعي بين الناس فنزل قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (22) سورة النــور.

قال أبوبكر رضي الله عنه: بلى!!.

أي بلى أحب أن يغفر الله لي وأن يعفو عني، فرد أبوبكر رضي الله عنه النفقة التي كان ينفقها على ابن خالته رغم ما كان منه في حق أم المؤمنين رضي الله عنهم.

فأنظر أخي الكريم إذا كنت قاطعا لرحمك ما السبب في ذلك، مهما كان السبب فعادة لا يرقى إلى مثل السبب الذي قطع بسببه أبوبكر النفقة على ابن خالته، ورغم ذلك انظر كيف كان الرد القرآني على ذلك.

فالله الله في وصل ما أمر الله به أن يوصل، وإياكم والقطيعة فهي قطع لما أمر الله به أن يوصل.

جعلنا الله وإياكم من أهل الصلة والرحمة، وجنبنا سلوك سبيل المجرمين، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه البخاري (5525) ومسلم (4636)

2 تفسير ابن كثير (1/211).

3 رواه أبو داود (4256)وغيره، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم: (918).

4 رواه أحمد برقم: (10277)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2538)

5 رواه البخاري: (4552) ومسلم برقم: (2555) وهذا لفظه.