الغفلـة

الغفلـة

الغفلـة

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا, أنزله هدى للمتقين وعبرة للمتعظين, فأحيا به القلوب وأصلح به الأعمال وذكر به من الغفلة, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:

أخي المسلم الكريم:

إن الله تعالى خلق الخلق لعبادته، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، ورغَّبهم في الجنة، ورهَّبهم من النار، وذكرهم بما هم مقبلون عليه بعد الموت من أهوال وكربات عظام، لكن الكثير من الناس ينسى هذه الحقائق ويغفل عنها: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ* مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (1-2) سورة الأنبياء. حتى إن المرء لو نظر لأحوال هؤلاء لوجد جرأة عجيبة على الله، وسَيْرًا في طريق المعاصي والشهوات، وتهاونًا بالفرائض والواجبات، فيتساءل: هل يُصدِّق هؤلاء بالجنة والنار؟ أم تراهم وعدوا بالنجاة من النار وكأنها خلقت لغيرهم؟ يقول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (115) سورة المؤمنون.

إن حال هؤلاء يصدق فيه قول القائل:

 نهارك يا مغرور سهوٌ وغفـلةٌ

وشغلك فيما سوف تكره غبَّه

 

 

وليلك نومٌ والردى لك لازمُ

كذلك في الدنيا تعيش البهائمُ

 

وإن من أعظم أسباب الغفلة الجهل بالله -عز وجل- وأسمائه وصفاته, والحق أن كثيرًا من الناس لم يعرفوا ربهم حق المعرفة، ولو عرفوه حق المعرفة ما غفلوا عن ذكره، وما غفلوا عن أوامره ونواهيه؛ لأن المعرفة الحقيقية تورث القلب تعظيم الرب ومحبته وخوفه ورجاءه، فيستحي العارف أن يراه ربه على معصية، أو أن يراه غافلاً. فأُنس الجاهلين بالمعاصي والشهوات، وأُنس العارفين بالذكر والطاعات.

ومن أعظم أسباب الغفلة الاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها. قال الله -عز وجل-:{ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (3) سورة الحجر.

إن حال هؤلاء ليُنبئ عن سُكْر بحب الدنيا, وكأنهم مخلدون فيها، وكأنهم لن يخرجوا منها بغير شيء من متاعها مع أن القرآن يهتف بنا:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (5) سورة فاطر.

ومن أسباب الغفلة أيضًا صحبة السوء، فقد قيل: الصاحب ساحب، والطبع يسرق من الطبع، فمن جالس أهل الغفلة والجرأة على المعاصي سرى إلى نفسه هذا الداء : {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} (27-29) سورة الفرقان. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ)1.

ويقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-:"إن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين، فليتخير العبد أعجبهما إليه وأَولاهما به، فهو مع أهله في الدنيا والآخرة"2.

إن الغفلة –يا عبد الله- حجاب عظيم على القلب يجعل بين الغافل وبين ربه وحشة عظيمة لا تزول إلاَّ بذكر الله تعالى, وإذا كان أهل الجنة يتأسفون على كل ساعة مرت بهم في الدنيا لم يذكروا الله فيها، فما بالنا بالغافل اللاهي؟!!

قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (99-100) سورة المؤمنون.

إنهم عند نزول الموت بساحتهم يتمنون أن يؤخروا لحظات قلائل، والله ما تمنوا عندها البقاء حبًّا في الدنيا ولا رغبة في التمتع بها، ولكن ليتوبوا ويستدركوا ما فات، لكن هيهات هيهات, وقد قال سبحانه وتعالى:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} (54) سورة سبأ.

فيا أيها الأخ المسلم الكريم:

لقد خُلقنا في هذه الدار لطاعة الله وليست الدنيا بدار قرار فتنبَّه:

أما والله لو علم الأنام

 

 

لقد خلقوا لما لو أبصرته مماتٌ ثم قبرٌ ثم حشرٌ

 

 

لما خلقوا لما غفلوا وناموا

 

عيون قلوبهم تاهوا وهاموا وتوبيخ وأهوالٌ عظامُ

 

فهيا بنا نُقْبِلُ على طاعة الله مكثرين من ذكره، مستفيدين من الأوقات فيما يقربنا من جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, ولنتمثل قول القائل:

إن لله عبادًا فُطنا نظروا فيها فلما علموا

 

جعلوها لُجَّةً واتخذوا

 

 

طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا أنها ليست لحيٍّ وطنا

 

صالح الأعمال فيها سُفُنا

 

فيا عبد الله:

اتق الله تعالى واحذر الغفلة, وشمر بالعمل لذلك اليوم, واستعد له؛ فإنه اليوم الذي يحق لكل عاقل أن يعمل له ولكل حازم أن يستعد له.

وفقنا الله جميعاً لاغتنام الأوقات, والسعي في الأعمال الصالحات, واجتناب الخطايا والسيئات, بمنِّه وكرمه وجوده وإحسانه؛ إنه سميع قريب مجيب الدعوات, وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين3.

 

 


 


1  رواه أبو داود -4193- (12/459) والترمذي -2300- (8/383) وحسنه الألباني برقم (3545) في صحيح الجامع.

2 الوابل الصيب (1/65), لـ(ابن القيم).