تقطع الأسباب

 

 

 

 

تقطُّع الأسباب

الحمد لله الذي خلق الخلق لعبادته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحد في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأتباعه وصحابته، أما بعد:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران.

إخواني‏:‏ لو تَفكَّرت النُّفوسُ فِيما بينَ يدَيهَا وتَذكَّرَت حِسابها فيما لها وعليها لبعث حزنها بريد دمها إليها، أما يحق البُكاء لمن طالَ عِصيانهُ‏:‏ نهاره في المعاصي وقد طال خُسرانه، وليله في الخطايا فقد خفَّ ميزانه، وبين يديه الموت الشديد فيه من العذاب ألوانه.

إخواني: تفكروا في الحشر والمعاد وتذكروا حين تقوم الأشهاد‏:‏ إن في القيامة لحسرات، وإن في الحشر لزفرات، وإن عند الصراط لعثرات، وإن عند الميزان لعبرات، وإن الظلم يومئذ ظلمات، والكتب تحوى حتى النظرات، وإن الحسرة العظمى عند السيئات فريق في الجنة يرتقون في الدرجات وفريق في السعير يهبطون الدركات، وما بينك وبين هذا إلاَّ أن يقال‏:‏ فلان مات، وتقول‏:‏ رَبِّ ارجعوني فيقال‏:‏ فات.1

أيها المؤمنون -عباد الله-: إن أعظم حسرة يتلقاها العاصي يوم القيامة هي حسرة تقطع كل أسباب النجاة عليه، فلا والد ينفعه، ولا ابن يؤويه، ولا أم تنقذه، ولا أخ يحميه.

والأعظم من ذلك كله حين يحب ويوالي ويصاحب ويناصر و يتخذ له صفياً من جلسائه، معتقداً نجاته في الآخرة بسببه كما كان ينجو بسببه في الدنيا، فيتبرأ منه يوم القيامة.

إنها حسرة جلساء أهل السوء يوم انساقوا معهم يقودونهم إلى الرذيلة ويصدونهم عن الفضيلة، إنها لحسرة عظيمة في يوم الحسرة يعبرون عنها بعضِّ الأيدي يوم لا ينفع عض الأيدي كما قال ربي:

{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا*يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا*لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} (27-29) سورة الفرقان.

وفلان في هذه الآية هو صاحب السوء الذي يدعوك إلى شريط الأغاني، والفِلم الخليع،والمجلة الساقطة، وإلى كل ما ألهاك عن طاعة الله وذكره.

قال تعالى: {الْأَخِلَّاءيَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}(67) سورة الزخرف.

فكل حبيب سيعادي حبيبه إلا المتحابون في الله وكل صديق سيتبرأ من صديقه إلا من كانت صداقتهم على طاعة الله.

فإن كنت ممن ابتلوا بصحبة من لا تقربك إلى الله صحبتهم فتبرأ منهم الآن قبل أن يتبرءوا منك، وتتقطع عنك أسباب النجاة حيث لا منجي إلا الله.

ومتى وأين سيكون ذلك؟ أما الزمان فمعلوم، وأما المكان ففي النار: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ*وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (166-167) سورة البقرة.

فهذه حسرة الأتباع المقلدين لأصحاب السوء ولعلماء الضلالة، فالنجاة والفوز في اتباع النبي  ، فالسنة كسفينة نوح من ركبها فقد نجا ومن تخلف عنها فقد هلك فليست الحجة في قول فلان وفلان إنما الحجة في قول النبي العدنان، إنها حسرة الأتباع المقلدين.2

عباد الله: في يوم القيامة يبحث كل إنسان عن أي وسيلة مهما كانت ضعيفة واهية لعلها تصلح لنجاته من غضب الله ولذلك تكثر المناقشات والمحاورات بين الآباء والأبناء والأزواج والزوجات والكبار المتسلطين والصغار التابعين بين الأغنياء الجبارين والفقراء المنافقين كلٌ يحاول إلقاء التبعة على غيره لكن حيث لا تنفع المحاورات ولا الخصومات ولا التنصل من التبعات ثم لا يكون إلا الحسرات.3

أسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى اتباع هدي محمد  ، وأن يصل أسبابنا يوم تُقطع الأسباب إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.


1 المواعظ لابن الجوزي ص(1-3) بتصرف.

2 كتيب بعنوان “وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ”للشيخ: ندا أبو أحمد، ص(7).

3 المصدر السابق، ص(14).