رباط قرآني محكم واتصال ديني وثيق

رباط قرآني محكم واتصال ديني وثيق

 

إن الحمد لله، نحمده – تعالى – ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه، فصلوات الله عليه في الأولين، وصلوات الله عليه في الآخرين، وصلوات الله عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}2، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}3، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}4، أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أعاذني الله وإياكم من كل ضلالة تهوي بصاحبها إلى النار.

معاشر المؤمنين: إن الحج فرصة للمتاجرة مع الله، أرواح صافية، ونفوس نقية، وقلوب سليمة، وصدور منشرحة، وقلوب مطمئنة، وأفئدة مشتاقة، وأذان صاغية، وقلوب واعية.

في مناسك الحج تتلاشى فوارق اللغة والألوان، والأجناس والأبدان، والأحساب والبلدان، كما تذوب في أثنائه الانتماءات السياسية، والنعرات الحزبية، والتوجهات المذهبية، والتفاخرات العنصرية؛ مما يؤكد لنا جميعاً أنه لا صلاح للبشرية، ولا فلاح للإنسانية، ولا مخلص لعالم اليوم من أزماته الخانقة، ومشكلاته المتردية، وأوضاعه الحالكة؛ إلا الاستمساك بحبل الله، والاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، والسير على نهج سلف هذه الأمة؛ لأن

الخير كل الخير في اتباع من سلف            والشر كل الشر في اتباع من خلف

دل عليه قول الله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}5.

عباد الله: الأفئدة تهوي إلى مكة المكرمة (أم القرى)، ومهبط الوحي، ظلت عبر التاريخ، ومرِّ القرون؛ بناءً شامخاً، وصرحاً راسخاً تتهاوى الدول، وتذبل الحضارات، وتتساقط كأوراق الخريف، وتحفظ مكة بحفظ الله لها؛ رمزاً للإيمان والأخوة، وموئلاً للعقيدة الصحيحة، ومصدراً للدعوة إلى الله، ومركزاً لأعظم حضارة إسلامية حكمت العالم كله بخلافة حضارية لم يشهد التاريخ لها مثيلاً؛ حتى قال قائلهم بعد أن فتحوا الديار، وعبروا الأقطار، وتجاوزوا الأخطار، وسكنوا الأمصار، وشهد لهم الليل والنهار

كنا ملوكاً على الدنيا وكان لنـا            ملك عظيم وكنا سادة الأمـم

كسرى وقيصر والخاقان دان لنـا           وأمرنا كان بين السيف والقلم

نعم إنها حضارة مكة، حضارة أم القرى، حضارة دكت عروش الجاهلية، وحطمت كيان الوثنية، وهزت كيان العالم، فالله أكبر ولا إله إلا الله، والله أكبر هذا عبق الذكريات الخالدة، وشذى الانتصارات الماجدة.

إنها مكة: مركز العالم، وقطب الرحى في كيان هذه الأمة، ومكمن القوة في مواجهة التحدي، وسر النصر في بدء الانطلاقة.

معاشر المؤمنين: اسألوا التاريخ عن مكة، من آدم – عليه السلام – إلى إبراهيم حيث بناء البيت، وحيث المقام، والحطيم، وزمزم، وهاجر، وإسماعيل، إلى نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – حيث الفتح والقيادة، والريادة والسيادة، وتحطيم الشرك والأوثان.

والله ما طلعت شمس ولا غربـت  إلا وحبـك مقرون بأنفاسي

ولا جلست إلى قوم أحدثهــم   إلا وأنت حديثي بين جلاسي

عباد الله: إذا كنا اليوم نتكلم عن مكة والمسجد الحرام، والمشاعر المقدسة، فكيف ننسى أن للحرمين أخاً يئن ويصرخ، ويستغيث ويستنجد، إنه أولى القبلتين

لقد أسمعت لو ناديت حياً           ولكن لا حياة لمن تنادي

ولو ناراً نفخت بها أضاءت          ولكن أنت تنفخ في رماد

آه آه إنه المسجد الأقصى، إنه القدس المقدس، بل إنها فلسطين أرض المسجد الأقصى، عانقت مكة أرض المسجد الحرام {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}6.

نعم: ارتباط قرآني محكم، واتصال ديني وثيق؛ بين أقدس بقعتين، وأكرم وجهتين على وجه المعمورة، وما وصله الله لا ينقطع أبداً {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}7، وإن التاريخ لم يبرز لنا قضية تجلت فيها الثوابت الشرعية، والحقوق التاريخية، والأمجاد الحضارية؛ كما انبرت لها الأحقاد العالمية، وظهرت فيها المتناقضات الدولية؛ كقضية المسلمين الأولى التي ما نسيناها ولن ننساها "قضية فلسطين والأقصى".

عباد الله: ماذا يريد دعاة السلام على حساب الأرض والإسلام، لقد سقطت الأقنعة، وتعرَّت الشعارات المنادية بالسلام، وإنكم يا دعاة السلام والاستسلام مع قوم لايؤمنون بذلك أبداً، فلستم أعلم بهم من الله القائل: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}8، والقائل: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}9.

 بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا فادعوا الله واستغفروه فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله العزيز الغفار، القوي الجبار، عدد ما صلى له المصلون الأخيار، ثم الصلاة والسلام على النبي المختار، خير من ركع وسجد واستغفر بالأسحار، وعلى آله وصحبه الطيبين الأطهار، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم يبرز فيه العباد لله الواحد القهار، أما بعد:

معاشر المؤمنين: إن المتأمل في تاريخ اليهود على مرِّ العصور والدهور، والسنين والشهور؛ يرى أنه تاريخ أسود، مفضوح مقبوح، تاريخ ملعون: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}10، تاريخ مليء بالغدر والخيانة، والخسة والدناءة، والكبر والجحود، والتكذيب والتزوير.

نعم إنهم اليهود الذي قرر قرآننا، وسنة نبينا، وأكدت عقيدتنا، وسجل تاريخنا على أنهم لا يريدون سلماً ولا سلاماً ولا إسلاماً: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}11.

عباد الله: اقرؤوا التاريخ لتدركوا أن يهود الأمس سلف سيء، ويهود اليوم خلف أسوأ، كيف لا: وهم كفار النعم، عبَّاد العجل، قتلة الأنبياء، محرِّفوا الكلم، مكذِّبو الرسالات، خصوم الدعوات، شذَّاذ الآفاق، حثالة العالم، جرذان الخليقة: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}12.

هم اليهود: آذوا موسى، ونشروا زكريا، وقتلوا يحي، وكفروا بعيسى، وحاولوا قتل محمد – صلى الله عليه وسلم -، فتاريخهم مفضوح، وسجلهم بالسواد مكلوح، فيا ليت شعري ماذا يريد بعض جهلائنا منهم؟ هل يريدون سلاماً؟

لا يمكن هذا إلا بالتنازل عن القدس، وهذا ليس ملكاً لهم، بل هو ملك لكل مسلم على وجه الكرة الأرضية.

وإن الحل الوحيد: هو الجهاد في سبيل الله؛ لأن ما أخذ بالقوة لايسترد إلا بالقوة، ولا نقول إلا: {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}13، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينََ}14، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}15 فاللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعز الإسلام والمسلمين، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والشرك والعناد، وانصرنا على أعدائنا، وفك أسرانا…!

عباد الله: صلو ا وسلموا على من أمرتم بالسلام عليه حيث أمركم ربكم فقال ولم يزل قائلاً عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}16.

بلغ العلــى بكمالـه             كشف الدجى بجماله

عظمت جميع خصالــه           صلوا عليه وآلـــه

عباد الله {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}17، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}18، وأقم الصلاة.


1 سورة آل عمران (102).

2 سورة النساء (1).

3 سورة الأحزاب (70-71).

4 سورة الحشر (18).

5 سورة الرعد (11).

6 سورة الإسراء (1).

7 سورة يوسف (21).

8 سورة البقرة (100).

9 سورة التوبة (10).

10 سورة المائدة (78).

11 سورة المائدة (64).

12 سورة المائدة (60).

13 سورة آل عمران (173).

14 سورة المنافقون (8).

15 سورة الحج (40).

16 سورة الأحزاب (56).

17 سورة النحل (90).

18  سورة العنكبوت (45).