المؤثرات الخفية
الشيخ/ محمد صالح المنجد
الجمعة 14/6/1431هـ
1. الإيمان بالغيب.
2. إنكار الغيبيات والإيمان بالماديات والمحسوسات.
3. البركة الشرعية وموقف الماديين منها.
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الإيمان بالغيب
عباد الله:
كانت أول صفة من الصفات التي وصف الله بها عباده المتقين في القرآن الكريم أنهم يؤمنون بالغيب فقال الله -عز وجل-: {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}(3) سورة البقرة، والغيب هو كل ما غاب عن الإنسان، وما لا تدركه حواسه، وقد استأثر الله بعلم غيب المستقبل، وعلِم ما كان وما يكون -سبحانه وتعالى- والخلق يخفى عليهم أشياء كثيرة مما كان ويكون، ولا يعلمون شيئاً البتة مما سيكون.
علم الغيب وما وراء المادة من علم الحاضر يغيب عن البشر، ومن الناس من ضل فأنكر والله -عز وجل- قد أخبرنا بأمور عديدة من الغيب، فأخبرنا أن الجنة والنار مخلوقة فهي موجودة الآن وإن كنا لا نراها، وأخبرنا عن عباده الملائكة فهم موجودون الآن ولكننا لا نراهم، بل يأتون أبواب المساجد يوم الجمعة يكتبون الأول فالأول ولا نراهم، ويحيطون بالجالسين الذي يذكرون الله ويستمعون الذكر ولا نراهم، بل يلازمون كل إنسان لكتابة أعماله {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَامًا كَاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}(10-12) سورة الانفطار ، ولا نراهم، وأوامره -سبحانه وتعالى- نازلة إلى عباده، وأعمالهم الصالحة صاعدة إليه ونحن لا نراها.
وهذه الأرواح في أجوافنا وإذا مات الميت خرجت روحه ونحن لا نراها، والله -عز وجل- تحدى من يعيد الروح إذا أخرجها ملك الموت بأمره سبحانه {فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(86-87) سورة الواقعة، وهؤلاء متحلقون حوله ينظرون ولا يرون ملك الموت وهو يأتيه لقبض روحه ولا الملائكة التي معه {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ}(61) سورة الأنعام.
وملك الموت له أعوان أخبرنا -سبحانه وتعالى- عن ملائكة العرش في سنة نبيه ﷺ وأخبرنا عن خلائق لا نراهم، أخبرنا عن إبليس الذي يفعل أفعاله ونحن لا نراه{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}(27) سورة الأعراف.
وفي عالم الإلحاد وعالم المادة وسيطرة الغرب وهذه المقررات والكتب، وهذا الطرح العلماني المادي الذي ينكر الغيب يجعل كثيراً من المسلمين يفقدون الإحساس بأهمية هذا الأمر العظيم -وهو الإيمان بالغيب- وربما عرفه بعضهم نظرياً ولكن لا يعيشه قلباً وفقهاً وعقلاً، ولا تتحقق سعادة العبد في الدنيا والآخرة ولا يطمئن قلبه إلا بالإيمان بالغيب، بل إن ربنا -سبحانه وتعالى- لا نراه في الدنيا وهو خالقنا وقد احتجب بحجابه النور ولكن عباد الله المؤمنين يؤمنون بربهم وبملائكته ووحيه.
ولما كان الوحي يا عباد الله! من الله -عز وجل-، هذا الوحي من عالم الغيب يأتي به الرسول الملكي إلى الرسول البشري، وينزل على الرسول البشري ولا يرون من ينزل حتى الصحابة لكن يؤمنون ويشعرون بذلك إذا نزل على نبيهم ﷺ مما يرون عليه من الجهد والآية، فكانت معجزات الأنبياء من عالم الغيب كثيرة جداً، فهذه ناقة صالح من أين أتت؟ وهذه العصا واليد كيف تفعل فعلها؟ وقد أرى النبي ﷺ قريشاً القمر شقين بينهما جبل حراء، وكان يسمع تسليم الحجر عليه، وينقاد الشجر إليه، ويسبح الطعام بين يديه، ويحن الجذع إليه، وتحصل البركة في الطعام القليل لجميع الجيش فيكفيهم، كل هذه أشياء غيبية.
وكذلك كرامات الأولياء {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً}(37) سورة آل عمران، قيل: كان يجد فاكهة الصيف في الشتاء وطعام الشتاء في الصيف، ويقول لها: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا}(37) سورة آل عمران، فتجيبه: {هُوَمِنْ عِندِ اللّهِ}(37) سورة آل عمران، وهذا غيب، وكرامات الصحابة ومن بعدهم كثيرة في هذه الأمة -ولله الحمد- وهي من عالم الغيب.
قال النبي ﷺ لأصحابه ذات يوم: ((بينما راعٍ في غنم عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي فالتفت إليه الذئب فقال: من لها يوم السبع، يوم ليس لها راعٍ غيري))، ((وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها -يعني متاعاً وأثقالاً- فالتفتت إليه فكلمته فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث)) قال الناس: سبحان الله! قال النبي ﷺ : ((فإن أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر))[رواه البخاري].
إنكار الغيبيات والإيمان بالماديات والمحسوسات
لا ينكر الغيب إلا جاهل، وأما أهل المادة فإنهم لا يرون أبعد من أنوفهم، وفي زمن الماديات حصلت فتنة إنكار الغيب، وممن دخل في هذا من يزعمون أنهم أصحاب الإسلام التنويري والعقلاني حيث ينكرون كثيراً من الغيبيات ولا يؤمنون إلا بالماديات والأرقام؛ وذلك لأنهم مفتونون بالغرب والمادة والقوة المحسوسة فلا يرون ما وراء ذلك.
في زمننا اعتمد كثير من الناس على المادة اعتماداً مطلقاً فقست قلوبهم، وصارت لغة الأرقام هي السائدة بينهم، فلا يرون من عالم الروح شيئاًَ، ولا من عالم الغيب، بل ترى البعض من تعلقه بالمادة إذا أراد أن يدعو إلى العبادات دعا إليها من زاوية المنافع المادية البحتة،
فيقول عن الصلاة بأنها رياضة وتنشيط للدورة الدموية، وضبط لإيقاع الجسم، وإعادة النشاط إليه، وتقوية العظام، ولا يتحدث عن الصلة العظيمة بين العبد وربه في هذه الصلاة ووقوف الإنسان بين يدي الله، وأنه سبحانه ينصب وجهه لوجه عبده في الصلاة ما لم يلتفت، وهكذا من الفوائد العظيمة لهذه الصلاة مما لا يرى.
وإذا تكلموا عن الصوم تكلموا عنه من باب أنه حمية ونقاهة للمعدة، وإزالة للفضلات، وترتيب للوجبات، ووقاية من السكر، ومن أنواع الآفات، لكن هذه فوائد دنيوية تأتي تبعاً، فمن فضل الله ومن نعمته أن للعبادات فوائد دنيوية لكن ليست هي الأصل، وينسون أن الصوم أصلاً قد شرع للتقوى كما قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(183) سورة البقرة، وهكذا هو كلامهم عن العبادات.
البركة الشرعية وموقف الماديين منها
عباد الله:
في عالم المادة ينسى كثير من الناس التوكل على الله واللجوء إليه، وأثر هذا التوكل في التوفيق وفي حصول الرزق وفي النجاح، والتوفيق من الله -سبحانه وتعالى- أمر غيبي، وهكذا ما يحصل من البركة في الرزق والطعام لا يرى الناس بركة تنزل لكنها تنزل في وسط الطعام، ولذلك أمرنا أن نأكل من أطرافه ولا نبدأ بوسطه.
في عالم المادة لا يكاد يعترف هؤلاء الناس بمعنى قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}(4) سورة الطلاق؛لأن اليسر عندهم له أسباب دنيوية فإذا فاتت فلا يُسر.
في عالم المادة لا يرون معنى قول الله: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(2-3) سورة الطلاق؛ لأنهم يرون أن الرزق يأتي بطرق معينة فلابد من الدراسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعية والتخرج والوظيفة لكي يأتي الرزق، أما غير هذا فلا يرونه، والله -عز وجل- يسوق الرزق إلى عباده وبهائمه بطرق خفية أيضاً، ونحن المسلمين نأخذ بالسبب الظاهر والخفي، وبالسبب المادي والمعنوي، وبالسبب المشاهد والغائب، فنبذل الأسباب ونتوكل على الله، وهذا من شمولية ديننا وعقيدتنا.
وقد يأتي الرزق بسبب غير متوقع، ليس من عالم المادة، ولا يمكن لأهل المادة أن يتخيلوه أو يقروا به، ولكن لله أسباب يحدثها فتأتي بها أرزاق، وقد يأتي الرزق بسبب خفي كما حصل في قصة الصحابية المتوكلة على الله لما رجع زوجها الفقير جائعاً فلجأت إلى الله ودعت ربها فإذا بتنورها الفارغ قد امتلأ جنوب الغنم مشوية ومصلية.
مر حماد بن مسلمة ليلاً والجو ممطر، فسمع صوت أرملة تقول: يا لطيف الطف بنا، فانتظر حتى هدأ المطر،فطرق الباب وقال لها: هذه عشرة دنانير اجعليها في حاجتك، فإذا بابنتها اليتيمة تقول لها: يا أماه لمَ رفعت صوتك فجعلتِ حماد بيننا وبين الله، فقالت الأم: لم أرفع صوتي ولكن الوكيل أتى به -سبحانه وتعالى- حيث ساقه من هذا الطريق وأسمعه هذا الكلام ليبذل المال لهذه المسكينة وابنتها، فكان من الممكن أن لا يأتي من هذا الطريق، وكان من الممكن أن لا يسمع الصوت في خضم هذا المطر، ولكن الله أتى به من هذا الطريق وأسمعه الصوت في هذا المطر ليكون رزقاً لهذه الداعية المتوكلة على الله الرافعة يديها إلى ربها تشكو إليه لا إلى المخلوقين حالها {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}ولا يظن ولا يخطر بباله.
أصحاب النظرة المادية ينظرون للخاطب من زاوية معينة، ما وظيفتك؟ وكم راتبك؟ وربما تخيلوا أنه لا يرزق إلا بهذا والله -عز وجل- قال: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ}(221) سورة البقرة،
وقال ﷺ : ((إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه))، والله -عز وجل- قال في موضوع الزواج: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(32) سورة النــور ، وقال كذلك عن الأولاد: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} (31) سورة الإسراء،
لكن عالم المادة يقولون: لا تكثر الإنجاب، ما عندك راتب يكفي للأولاد، لابد من إيقاف النسل، لابد من منع الحمل، بل ربما أوصوا بإجهاضه، ويأتي ورزقه مكتوب، ويأمر الله الملك عند نفخ الروح أن يكتب رزقه كما يكتب أجله وعمله وشقي أو سعيد.
أصحاب النظرة المادية يرون أن كثرة المهر دليل على الغنى وأنه سبب في السعادة، وقد قال النبي ﷺ : ((أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة)) فكانت كثرة البركة مع المهر ولو كان قليلاً، وكذلك التكلفة للزواج اليسيرة، فقوله: ((أيسرهن مؤونة)) هذا يشمل المهر والحلي وما يكون في وليمة النكاح.
لا يرى أصحاب المادة أن طعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة، ولا أن طعام الأربعة يكفي الثمانية، يرون أن هذه الوجبة لهذا الشخص فقط، وقد قال النبي ﷺ : ((لا توكي فيوكى عليكِ، ولا تُحصي فيُحصي الله عليكِ))[رواه البخاري] قالت عائشة -رضي الله عنها-: “توفي رسول الله ﷺ وما في بيته من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير فأكلت منه حتى طال عليَّ فكلته ففني”[رواه البخاري].
قال الحافظ -رحمه الله-: “فيه أن الطعام المكيل يكون فناؤه معلوماً للعلم بكيله، وأن الطعام غير المكيل فيه البركة؛ لأنه غير معلوم مقداره”.
وعن جابر أن رجلاً أتى النبي ﷺ يستطعمه، فأطعمه شرط وسق شعير فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله فأتى النبي ﷺ فقال: ((لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم))[رواه مسلم].
وهكذا الذي اتخذ مالاًوعدّده وجمعه فهو يريد أن يعلم به في كل وقت وحين من حرصه عليه وشدة محبته له{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}(20) سورة الفجر، وهكذا يرون الإحصاء والعدد باستمرار، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول في ذلك الذي يستظل بظل العرش: ((يتصدق حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)).
عباد الله:
وهكذا يرى أهل المادة في التجارة مجرد الأرقام، ولذلك يريدون زيادة الأرباح ولو بأمور من الحرام وبالجشع مع أنه البركة إذا نزلت بالصدق صار هذا الأقل يكفي ويسعد.
توكلت في رزقي على الله خالقي | وأيقنت أن الله لا شك رزاقي |
وما يكُ من رزقي فليس يفوتني | ولو كان في قاع البحار العوامقِ |
سيأتي به الله العظيم بفضله | ولو لم يكن مني اللسان بناطقِ |
ففي أي شيئاً تذهب النفس حسرة | وقد قسم الرحمن رزق الخلائقِ |
اللهم بارك لنا فيما آتيتنا، وارزقنا من لدنك رزقاً حسناً، واجعلنا ممن يؤمنون بالغيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والهادي إلى سبيل الله، علمنا فأحسن تعليمنا، وبلغنا الرسالة، وأدى الأمانة، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، أشهد أنه رسول الله حقاً، والداعي إلى سبيله صدقاً، صلى الله عليه وعلى آله وذريته الطيبين، وأزاوجه وخلفائه الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:
لا يرى الناس في عالم المادة البركة في الوقت مثلاً، ولا يرون فوائد الطاعة في هذه البركة وما يمكن للمتقين أن يفعلوه في أعمارهم أضعاف أضعاف ما يعمله الكافرون.
عباد الله:
عمارة العمر بالطاعة تأتي بالبركة، وهذه الآيات والأذكار والعبادات تزيد في عمر الإنسان كماً وكيفاً، عدداً ومعنى.
في ترجمة إسماعيل بن أحمد بن عبد الله الضرير أنه قرأ كتاب الصحيح -صحيح البخاري- في ثلاثة مجالس، كان يبتدئ بالقراءة وقت صلاة المغرب ويقطعها عند صلاة الفجر، قال الذهبي -رحمه الله-:وهذا شيء لا أعلم أحداً في زماننا يستطيعه.
وقرأ الحافظ العراقي مسند الإمام أحمد على ابن الخباز في ثلاثين مجلساً.
وقرأ الحافظ ابن حجر صحيح البخاري في أربعين ساعة في عشرة مجالس!
وهكذا يقع لأهل العلم من البركة في الختمات، وفي قراءة الأحاديث المسندات، وفي الفقه في الدين، وتعلم المسائل، ويبارك لهم في الوقت أيضاً فيجدون متسعاً لطلب الرزق، وصلة الرحم، والقيام بالواجبات الاجتماعية، وتعليم الخلق، وعبادة الله ما لا يجده أصحاب المادة في عمر ينقضي بلا طعم، ووقت يمر مراً سريعاً بلا بركة.
((من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره -يعني: يؤخر له في أجله ويطال في عمره- فليصل رحمه))[رواه البخاري] لكن أهل المادة لا يؤمنون بهذا؛ لأنه ما العلاقة بين صلة الرحم مادياً؟ ما هي الأشياء التي تدركها الآلات والأبحاث المختبرية في العلاقة بين صلة الرحم وبين الزيادة في الرزق والعمر؟ وهكذا صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار.
وحتى في عالم المواجهات كان أسلافنا في جهادهم في سبيل الله إذا لجؤوا إلى الله نصرهم بأمور غيبية فينزل عليهم ملائكته لتقاتل معهم أعداءه، فكيف يقاس هذا في عالم الماديات؟! وكيف يدرك الخبراء العسكريون الماديون قضية نزول الملائكة للنصرة؟ وعندهم حسابات بالأرقام في مواجهات الجيوش وأعداد معينة وقد قال الله: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ}(249) سورة البقرة،
بل ربما تكون الكثرة -وهي عند أهل المادة سبب عظيم للانتصار- قد تكون سبباً للهزيمة أحياناً، قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ}(25-26) سورة التوبة.
كيف يدرك أهل المادة النصر بالرعب الذي ورد في حديث: ((نصرت بالرعب مسيرة شهر))[متفق عليه]؟، نعم إن هذه الميزة لنبينا -صلى الله عليه وسلم- خصه الله بها وفضله ولم يؤتها أحداً غيره ولكن لأمته المؤمنين الصادقين نصيب منها.
قال أبو محمد الأصيلي: افتتحنا برشلونة – في فتح الأندلس – مع ابن أبي عامر ثم صح عندنا بعد ذلك عن من أتى من القسطنطينية أنه لما اتصل بأهلها افتتاحنا برشلونة -يعني: وصل إليهم الخبر- بلغ بهم الرعب إلى أن غلقوا أبواب القسطنطينية ساعة بلوغهم الخبر بها نهاراً وهي على أكثر من شهرين – مسافة السير-[شرح ابن بطال -رحمه الله-].
كم المسافة بين القسطنطينية وبرشلونة؟ هذه في الشرق وهذه في الغرب، ولا يعرف اليوم أولادنا من برشلونة إلا المنتخب الكروي، والفريق القدمي.
أهل الدنيا لا يؤمنون بالغيب ولا بالبركة، ولا بالأسباب الخفية للنصر، والعلاقة مع الله، ولا ما ينزل الله من نصره، ولذلك كانت النفوس المؤمنة في الجيش لها وزن عظيم، وكان القادة المسلمون يدركون أهمية ذلك، ويقدمونه على العدد والعُدد المادية.
قال الأصمعي: لما صافّ قتيبة بن مسلم للترك وهاله أمرهم، سأل عن محمد بن واسع -رحمه الله، وهو من العلماء العباد كان قد خرج معه للجهاد في سبيل الله- فقيل له: هو ذاك في الميمنة جامح على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء، فقال القائد قتيبة: تلك الأصبع أحب إليَّ من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير؛ لأن أهل الإيمان يؤمنون بالغيب ويرون هذه الآثار ويحسون بها للعبادة والصلاح والتقوى وما يؤدي إليه وجود الصلحاء والعلماء والأتقياء بينهم من توفيق ونصر وما يجلبه ذلك من بركة وخير.
في عالم المادة لا يرى أهل المادة أي علاقة بين أشياء غيبية مثل: الرقية بالقرآن {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء} (82) سورة الإسراء،
وكذلك أثر الدعاء على العلاج، فالعلاج يرونه بهذه الأدوية وهذه العقاقير وهذه الكميات، وهذه الأوقات، وهذه الطرق في التناول، وهذه الأشعة، وهذا التصوير، وهذا الذي يكشف لهم، أما مسألة أثر القرآن في العلاج فلا يرونه ولا يحسون به، ولذلك ينكره الكثيرون، وأهل العلمنة يؤلمهم ويغيظهم أن تدخل قضية الاستشفاء بالقرآن في مسألة الأمراض ونحو ذلك من أمور الدين التي لا يريدون أن يكون لها أي تعلق بحياة الناس، وإنما يريدونها مادة في مادة.
عباد الله:
يحسب أهل المادة وسائل السلامة في الأمور المادية البحتة، مقاييس معينة، طفايات.. أبعاد.. اتجاهات..خطوات.. قياسات.. لكن أثر الأذكار في الوقاية والسلامة كقوله: ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) أو ((بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)) فهذا لا يدركونه البتة ولا يخطر ببالهم، وربما يقوم بعض من تسلل إليه الفكر الإلحادي المادي بمقاومة ذلك والعيب على من يأخذ به، وأما نحن أهل الإسلام -ولله الحمد- نأخذ بوسائل السلامة المادية والمعنوية، ما توصل إليه العلم الحديث، وما جاء في العلم الشرعي -علم الوحي الإلهي الأعظم -ولا شك أنه أعظم- نجمع بينهما ونأخذ بالأسباب في الكسب والتجارة الأسباب الدنيوية من دراسة،
وضرب في الأرض، ولكن مع التوكل على الله والدعاء وبذل الأسباب الشرعية أيضاً، وهكذا في الصحة نأخذ بالأسباب المادية في الوقاية والعلاج، ولكننا لا ننسى بل نؤمن إيماناً عظيماً بأهمية العلاجات الإيمانية وأثر هذه العلاجات في الشفاء، وأن الله هو الشافي لا شافي إلا هو -سبحانه وتعالى- ولو شاء لتخلفت الأسباب عن العمل كما تخلف سكين إبراهيم عن القطع، والنار التي ألقي فيها عن الإحراق.
عباد الله:
هذه القضية العظيمة المهمة الشريفة وهي مسألة الغيب وموقف المؤمنين منه وموقف أهل المادة منه جديرة بالتأمل.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وإن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعلنا من الأتقياء، الأخفياء، الأنقياء، السعداء في هذه الدنيا وفي الآخرة يوم يقوم الأشهاد.
اللهم أدخلنا الجنة برحمتك، وأدخلنا الجنة مع الأبرار، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم اغفر ذنوبنا، واقضِ ديوننا، واهدِ ضالنا، واجمع على الحق شملنا، اللهم آتنا سؤلنا، وقناشر أنفسنا، وأصلح نياتنا وذرياتنا، وبارك لنا فيما آتيتنا، واجعله عوناً لنا على طاعتك، واكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عن من سواك.
اللهم آمنا في الأوطان الدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، اللهم اقمع المنافقين، اللهم اشغلهم بأنفسهم واخزهم يا رب العالمين، وانصر عبادك الموحدين، وانصر أهل السنة في العالمين، أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين