ما غرك بربك الكريم؟
الحمد لله العظيم الحليم، الغني الكريم، الرؤوف الرحيم، الواسع الحكيم، خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم أمده بواسع الفضل والعطاء العميم، وفضله على كثير من خلقه فنعم التفضيل والتكريم، فشكر من شكر وكفر من كفر وربك حكيم عليم، وصلى الله على نبينا محمد خير من حقق معاني التأله والتعبد والشكر والخلق القويم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
فإن حلم الله تعالى واسع على الناس جميعاً ولولا حلمه لهلك الناس كلهم كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (45) سورة فاطر.
وقال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (61) سورة النحل.
فرحمة الله وسعت كل شيء،، لكنه سبحانه وتعالى يملي للظالم ويتركه على ما هو عليه ويرسل له الرسل وينزل إليه الكتب ويريه من آياته ما يكون عليه حجة، ويجعل له من شدائد الحياة ونكباتها دروساً لعله يستفيد منها، فإذا لم ينفع كل ذلك أخذه الله أخذ عزيز مقتدر..
وفي هذا المعنى يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (6) سورة الانفطار.
عن سعيد بن عبيد قال: رأيت سعيد بن جبير وهو يؤمهم في رمضان يردد هذه الآية (إذ الأغلال في أعناقهم..) (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم*الذي خلقك فسواك..) يرددها مرتين أو ثلاثاً.
وعن أبي بردة قال: كان أبو موسى إذا قرأ {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} قال: يعني الجهل، ويبكي. وإذا قرأ: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو} بكى.
والذي غر الإنسان بالله تعالى هو الجهل به سبحانه ونفسه الأمارة بالسوء، فلو علم الإنسان عظمة الله وقدرته لما عصاه، ولهذا يقول الربيع بن خثيم في قوله: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) قال: الجهل.
“فالذي غره بربه: الغرور وهو الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء وجهله وهواه وأتى سبحانه بلفظ (الكريم) وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال حقه. فوضع هذا المغتر الغرور في غير موضعه واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به”.1
فـ”يا لها من آية عظيمة! ويا له من نداء تهتز له القلوب وتقشعر منه الأبدان! يوم ينادى عليك أيها الإنسان الفقير الضعيف:
ما غرك بربك الكريم ؟
ما الذي خدعك حتى عصيت الواحد القهار؟
ما الذي خدعك فاقترفت الآثام بالليل والنهار؟
ما الذي خدعك ففرطت في حدود الله؟
ما الذي خدعك فتهاونت في الصلاة؟
ما الذي خدعك فأطلقت بصرك في الحرام؟
ما الذي خدعك فلم تخش الله كما كنت تخشى الأنام ؟ أهي الدنيا؟ أما كنت تعلم أنها دار فناء؟
وقد فنيت!
أهي الشهوات؟ أما تعلم أنها إلى زوال؟ وقد زالت!
أم هو الشيطان ؟ أما علمت أنه لك عدو مبين؟
إذن ما الذي خدعك؟ أجب… أجب… لا عذر اليوم.
أخي الفاضل .. أختي الفاضلة:
أرأيتم؟
إنها لآية عظيمة وتذكرة مبينة لمن وعاها.. كررها بينك وبين نفسك.. قم بها في جوف الليل إذا هجع الأنام وغارت النجوم.. كررها في ركعتين تلذذ فيهما بمناجاة ربك.. وكرر يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم.. وتمثل نفسك ماذا تجيب! تذكر ذنوبك وابك على تفريطك..
أخي الفاضل .. أختي الفاضلة:
تخيل معي هذا المنظر كأنك تراه واعلم أنه واقع لا محالة وتخيل هذا المشهد المهيب:
(إذا السماء انفطرت*وإذا الكواكب انتثرت*وإذا البحار فجرت*وإذا القبور بعثرت*علمت نفس ما قدمت وأخرت*يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم*الذي خلقك فسواك فعدلك*في أي صورة ما شاء ركبك).” 2
“فيا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم؟ حيث أغلقت الأبواب وأرخيت الستور واستترت عن الخلائق، فقارفت الفجور! فماذا تفعل وقد شهدت عليك جوارحك! فالويل كل الويل لنا معشر الغافلين.. يرسل الله لنا سيد المرسلين، وينزل عليه الكتاب المبين، ويخبرنا بهذه الصفات من نعوت يوم الدين، ثم يعرفنا غفلتنا، ويقول: (اقترب الناس حسابهم وهم في غفلة معرضون*ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون*لاهية قلوبهم..) ثم يعرفنا قرب القيامة فيقول: (اقتربت الساعة وانشق القمر) (إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً) (وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً) ثم يكون أحسن أحوالنا أن نتخذ دراسة هذا القرآن عملاً فلا نتدبر معانيه، ولا ننظر في كثرة أوصاف هذا اليوم وأساميه، ولا نستعد للتخلص من دواهيه.. فنعوذ بالله من هذه الغفلة إن لم يداركنا الله بواسع رحمته..”3
اللهم إنا نعوذ بك أن نغتر بحلمك فننتهك حرماتك، ونعوذ بك أن نأمن مكرك فنتجاوز حدودك، يا رب العالمين ويا مجيب السائلين،، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.