التمويل المباح والتمويل المحرم

التمويل المباح والتمويل المحرم

الشيخ. محمد صالح المنجد

الجمعة 30/5/1431هـ

عناصر الموضوع :

1.    أنواع الكسب والتمويل المحرم.

أ‌.       تمويل الإرهاب.

ب‌.  غسيل الأموال.

ت‌.  تجارة الرقيق والبغاء.

ث‌.  تمويل الكيان الصهيوني.

ج‌.   تمويل التنصير في العالم.

ح‌.   تمويل البدع والسحر والشعوذة.

خ‌.   تمويل القنوات الإباحية ومسابقات الجمال.

د‌.      تمويل الأدوية الفاسدة.

ذ‌.      نهب المال العام والممتلكات والرشوة.

ر‌.      التمويل الربوي وصوره.

2.    التمويل المباح وطرقه

أ‌.       التورق والقرض.

ب‌.  المضاربة.

ت‌.  المرابحة .

ث‌.  الشراكة المتناقصة.

ج‌.   دعم المشاريع الصغيرة.

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قال لرسله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (51) سورة المؤمنون) وقال للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (172) سورة البقرة).

وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن العبد يوم القيامة موقوف ليُسأل عن كسبه وعن ماله: ((من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟))المعجم الكبير للطبراني (16533)، وقال الألباني حسن صحيح: صحيح الترغيب والترهيب للألباني (3/227).

أنواع الكسب والتمويل المحرم

وفي العالم اليوم – يا عباد الله- أنواع كثيرة من الكسب المحرم، والإنفاق المحرم، ولم يقتصر الأمر على الجانب الفردي في كسب أفراد الناس للأموال، بل تعدت القضيةُ إلى الكسب الجماعي، والإنفاق الجماعي في الأبواب، والمجالات المحرمة، ومن ذلك ما نسمعه من تمويل الجرائم المنظمة، والإنفاق من أجلها، وهي أعمال بالغة الخطورة، وتقف وراءها منظمات عالمية مشبوهة، فمنها: ما يأخذ المال للقتل بأجرة، فتقوم هذه العصابة بالقتل مقابل المال، ومنها: ما يكونه بعضهم من عصابات المتاجرة بالأعضاء البشرية، وبيعها بالأسعار الباهظة، ويكون في هذه المجموعات المجرمة من عالم الطب من يعينهم، وكذلك تجد هذه الجرائم المنظمة في عالم المخدرات والحشيش والأفيون، والحبوب المخدرة بأرقام ضخمة، حتى وصلت تجارة المخدرات إلى أكثر من ستمائة وثمانية وثمانين ملياراً من الدولارات، وهكذا مشاريع النهب المسلح، وترويج سوق الأسلحة في أماكن الحروب والفتن.

تمويل الإرهاب

ومنها أيضاً ما ذكرته هيئة كبار العلماء في تمويل عصابات الإجرام من الجناية على الأنفس والأموال والممتلكات، ونسف المدارس والمساكن والمستشفيات، والمصانع والجسور والطائرات، والموارد العامة كأنابيب النفط والغاز، وأن هذا من أعمال الإفساد والتخريب المحرمة شرعاً، واستدلت الهيئة بقول الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (205) سورة البقرة).

وتقف كثير من الأطراف المشبوهة التي تنسب أعمالها إلى الإسلام زوراً، وراء كثير من هذه الأعمال الإجرامية، كالتفجيرات في الأماكن العامة، كالأسواق والشوارع، فيموت من جراء ذلك من الأبرياء كالأطفال والنساء والرجال، وتتلف كثير من الممتلكات، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} (56) سورة الأعراف).

ولهذا فإن تمويل هذا الإجرام والإرهاب محرم وجريمة يعاقب عليها شرعاً، وتوفير المال لأجل ذلك لا شك أنه من سبل الحرام والإجرام.

غسيل الأموال

وقد صارت عملية تمويل الجرائم المنظمة في العالم في مجالات شتى؛ كغسيل الأموال، وهي عميلة تحويل الأموال الناتجة عن الأعمال المحرمة؛ كتجارة المخدرات، والدعارة، وسوق السلاح في أماكن الفتن والحروب، والتزييف، وتزوير الأموال، والاختلاسات، والسرقات، والمتاجرة بالبغاء، والرشاوى، كل الأموال الناتجة عن هذه الجرائم، تُسوّق عبر منظمات عالمية، وعصابات دولية، ليتم ما يسمى بغسلها في تجارة تصل سنوياً إلى أكثر من واحد فاصلة ستة من عشر ترليون دولار، ويعينهم على ذلك بنوك عالمية، تقوم بأخذ هذه الأموال، وتوظيفها في أعمال تسمى نظيفة! كالمشاريع العقارية والزراعية والصناعية لتخرج الأموال من عالم سوق الجرائم إلى عالم الاستثمارات التجارية بأنواعها، فيما يسمى من غسيل الأموال.

تجارة الرقيق والبغاء

عباد الله: لئن كانت الجريمة فردية في كثير من الأحيان، فقد تحولت في هذا الزمان إلى جريمة جماعية في كثير من الحالات، ومن ذلك انتشار ما يعرف بتجارة الرقيق، وتجارة البغاء، وما تقوم به العصابات في العالم اليوم من خطف للنساء والأطفال ذكوراً وإناثاً، أو إغراء النساء بعقود عمل في أماكن مختلفة من العالم، فتأتي إلى هذه العصابات التي تفتح لها مكاتب وواجهات، بنات كثيرات، خصوصاً من المحتاجات، ليتم تسويقهن بعد ذلك في أنحاء العالم، في الملاهي الليلية، ودور البغاء، وبيوت الدعارة، وهذا ولا شك من أعظم أبواب المكاسب المحرمة، وهذه التجارة تدر في بعض البلدان أرباحاً تتجاوز اثنين وثلاثين مليون دولار سنوياً.

ويتم تهريب الأطفال بوسائل شتى تمهيداً لاستعمالهم بعد ذلك في الدعارة، أو التسول الإجباري، أو العمل في المزارع بأجور بخسة، وربما ليس لهم إلا طعامهم، ويعيشون في ظروف أسوأ من ظروف الاستعباد.

تمويل الكيان الصهيوني

ولا شك أن من التمويل الإجرامي الظالم: تمويل دولة اليهود، وقد قام هذا الكيان الصهيوني على تمويلات من مصادر شتى، ومنها شركات عالمية، ومن هذه الشركات بعض شركات الأطعمة السريعة وغيرها مما هو مشهور ومعروف بتمويل دولة صهيون.

وكذلك ما يأخذونه عبر ما يسمى بالتعويضات، وأيضاً مؤسسات الشحاذة، والتسول العالمية اليهودية المنتشرة، وفي أمريكا وحدها أكثر من مائتي مؤسسة تعمل في جمع التبرعات لدولة يهود، ويأخذون كذلك من أنواع المعونات ما يأخذون!.

تمويل التنصير في العالم

ومن أنواع التمويل الإجرامي أيضاً ما يحصل من قيام الكنائس العالمية بتمويل مشاريعها عبر العالم، وينفقون عليها بسخاء، وقد ذكرت بعض المصادر أن ميزانية هذه الجمعيات التنصيرية في العالم تصل إلى ما يزيد على مائة وثمانين مليار دولار، وهذه الأموال تستخدم في مشاريع التنصير، وإقامة المنظمات، والأجهزة والشبكات، والقنوات والإذاعات، والمكتبات وطباعة الإنجيل المحرف، وقد تم تمويل وإدارة أكثر من ألف وثلاثمائة مكتبة عامة كبرى، ونشر أكثر من مائتين وعشرين مجلة بمختلف اللغات عبر العالم، ونشر أكثر من أربعة مليارات نسخة مما يسمونه بالكتاب المقدس، وتمويل وإدارة أكثر من ألف وثمانمائة محطة إذاعية وتلفزيونية، تستخدم أكثر من ثلاثة ملايين جهاز حاسب، وأربعة آلاف وكالة تنصيرية، كل ذلك لكي يدخلوا الناس في دين النصرانية، والله عز وجل قال في كتابه العزيز: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} وهؤلاء الذين كفروا كما أخبر الله: {إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (36) سورة الأنفال).

وقد جاء في بعض الإحصائيات أن ثلث النصارى المغاربة الذين تم تنصيرهم إنما كان بسبب الظروف الاقتصادية، والإغراء بالمال، فيتنصر شخص لحفنة من الدراهم، ويبيع ضعيف الإيمان دينه بعرض من الدنيا، وينسلخ منه لأجل مال يعطاه، من هذه التمويلات المحرمة التي يتصدق بزعمهم فيها على الكنيسة تجار النصارى في العالم، وشركاتهم الكبرى!.

تمويل البدع والسحر والشعوذة

ومن التمويل المحرم ولا شك أيضاً، تمويل نشر الملل الضالة، والنحل الباطلة، والبدع الهدامة المنحرفة، وتقوم وراء ذلك أيضاً دول ومؤسسات تستغل فقر أهل السنة، وحاجتهم، لتقوم بتحويلهم إلى أنواع البدع الكفرية، وفرق الباطنية النجسة، وهذا التمويل الذي تُغذى به هذه الجهات التي تنشر المعتقدات الخبيثة، وتطبع كتب أهل البدع، وتمول قنواتهم التي تنشر الكفر، والتشكيك والطعن في دين النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أصحابه الكرام، وكذلك التشكيك في بعض ما أنزل الله، ونشر الأحكام المحرفة في الحلال والحرام، وتبديل دين الله، وإدخال الشرك والشعوذة، ومن هذا ما تمول به قنوات السحر والشعوذة التي تفتح في بلاد الإسلام، وتصب بسمومها على عقول الناس، وكذلك نجد تمويل قنوات الفن العفن، والغناء المحرم، والحفلات التي تتضمن ما يسخط الله -عز وجل-.

تمويل القنوات الإباحية ومسابقات الجمال

إن تمويل هذه القنوات الإباحية من اليهود وغيرهم أياً ما كانت بلدانهم، وما يقوم من تمويل حفلات ملكات الجمال!، ونحو ذلك من المسابقات والمهرجانات والاحتفالات المحرمة، وكذلك تمويل شركات الخمور، والتدخين، والتبغ، وما إلى ذلك، ووراء ذلك أيضاً من أعداء الله من اليهود وغيرهم ممن دخل معهم، وتحالف معهم، وصار بينه وبينهم شراكات تجارية، فنية، أو غيرها، كل ذلك من تمويل الأعمال المحرمة التي تسخط الله وتغضبه، وينتج عنها من انتشار الفساد، والحرام والخنا والفجور ما ينتج!، وفي إسقاط شباب المسلمين وفتياتهم في الرذيلة!.

تمويل الأدوية الفاسدة

ومن التمويل المحرم أيضا تمويل تجارة الأدوية الفاسدة عبر العالم، فإنها تؤخذ بعد انتهاء صلاحيتها، لتزور تواريخها على عُلبها، ثم تسوق في القارات والبلدان الفقيرة، كأفريقيا وآسيا وغيرها.

وقد كشفت بعض الإحصاءات أن حجم تجارة الدواء المزيف في الشرق الأوسط وإفريقيا تقارب عشرين بالمائة من حجم المبيعات.

والغش في الأدوية خطره عظيم؛ لأن جريمته ليست مجرد المال الحرام، وإنما الاعتداء على أرواح الناس، وصحتهم وأجسادهم وسلامتهم.

ومن التمويلات المحرمة أيضاً تمويل ما يعرف بالأغنياء للفقراء عبر المعونات المشروطة التي يوجد من ضمنها تغيير دينهم، وإفساد أخلاقهم، وفتح مجالات لاستعمارهم اقتصادياً، والاستيلاء على أنشطتهم الاستثمارية، ومبدأ: "أشبعك واتبعني" يعمل به أيضاً في برامج الغذاء العالمية، من يعمل بزعمهم لإنقاذ الأرواح! وفي النهاية السقوط في وحل النصرانية وغيرها!.

عباد الله: إن هذا الموضوع الخطير والمهم الذي يؤثر في ملايين الملايين من البشر، إنما هو كسب للمال وإنفاقه في ما يسخط الرب سبحانه وتعالى، وهو الذي أمرنا أن يكون الكسب حلالا، والمطعم حلالا، وفي ذلك اليوم العصيب: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}(سورة عبس (34)(35) (36) ليس عنده مال في ذلك اليوم.

فهؤلاء الذين يعملون على مستوى العالم لنشر الشر والفساد، ويفسدون في الأرض بعد إصلاحها، والله عز وجل أصلحها، وجعل فيها المكاسب الطيبة، وهؤلاء يقومون بالإفساد فيها، وهو سبحانه وتعالى بحكمته قسم الأموال والأرزاق بين العباد.

ونجد عند هؤلاء الكفرة الذين يمولون هذه المشاريع الإجرامية في العالم أموالاً كثيرة، وربما يتحسر المسلم على هذه المليارات الموجودة عند أولئك الكفرة، وكيف ينفقونها للصاد عن سبيل الله، وللإفساد في الأرض اليوم، بأنواع الجرائم المنظمة، ولكن إذا نظرت –أيها المسلم- في قول الله عز وجل: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (55) سورة التوبة) فيتعذبون في جمعها، والشقاء في إنفاقها، ويتحملون ما يتحملون من الجُهد، ثم يُخرب الله بنيانهم، ويأتيهم من القواعد، فيخر عليهم سقف ما بنوه، ويفشل مخططاتهم، فيتحسرون على ما أنفقوا.

أيها المسلمون: إن المال ولا شك قوام الحياة، ولكن هؤلاء استخدموه في الإفساد بدلاً من أن يجعلوه قوام حياة، جعلوه قوام كفر وإلحاد، وبدعة ورذيلة، وشر واعتداء وإفساد، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يسلّم المسلمين، وأن ينصرهم على عدوهم، وأن يخذل الكافرين والمبتدعين، وأن ينشر سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويعليها في العالمين.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله، أشهد أنه رسول الله، الرؤوف الرحيم، وأشهد أن أصحابه وأتباعه من سلف هذه الأمة الذين ساروا على هديه خير البشر رضي الله عنهم أجمعين، ورضي عن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله: جعل الله المال قواماً للناس، وجعل فيه أحكاماً، وجعله بحكمته فتنة: (((لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال))كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم. سنن الترمذي: (2336) وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (5/336) .

وأخبرنا أيضاً عليه الصلاة السلام عن فتنة النساء، فهما أشد فتنتين على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، المال والنساء.

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (15) سورة الملك) فنحن نأكل من رزق الله، ونرجع إليه في طلبه: {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} (17) سورة العنكبوت) وهذه الطيبات التي أمرنا بأكلها موجودة ومتوفرة في الأرض، فقد جعل الله فيها من أنواع المعادن والثروات، والزرع والنباتات، وغير ذلك ما فيه أرزاق للبشرية.

فلو تأملت الثروة السمكية وحدها في المحيطات فقط، لتعلمنَّ أن الله رزاق كريم: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (44) سورة يونس).

وهذا المال فتنة، ولذلك صارت المصائد المحرمة للأموال تصطاد الناس المفتونين به: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّاا} (20) سورة الفجر)، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (8) سورة العاديات)، {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (46) سورة الكهف) {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} (14) سورة آل عمران)

نهب المال العام والممتلكات والرشوة

عباد الله: الأرض فيها حرام كثير اليوم كما عرفنا، ولكن قال ربنا سبحانه: {{قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (100) سورة المائدة) فلا تغتر -يا عبد الله- بالمكاسب المحرمة ولو كثرت مصادرها، وتعددت وسائلها؛ لأن الخبيث مهما كثر، يجب أن لا يعجبنا؛ لأن الله عز وجل سيجعله جميعاً في جهنم.

وقد نهانا الله عز وجل عن أكل المال بالباطل، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (29) سورة النساء)،إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة))صحيح البخاري( 2950)، فالعصابات التي تقوم بنهب المال العام، أو ببيع الأراضي مثلاً التي جاءت في طرق السيول، يعتبر أخذاً لها بغير حق، وترويجها وبيعها على المساكين الذين يدفعون فيها عرق جبينهم، وكد حياتهم لأجل أن يكون له في النهاية سقف بيت يستظل تحته، ثم بعد ذلك يذهب مع الذاهبين بسبب جرائم التخوض في المال العام بغير حق.

وكذلك أخذ هذه الممتلكات بالحرام، وبيعها بالباطل، وبعد ذلك يتضرر من جراءها من يتضرر، وكذلك نهب أموال المشاريع العامة، كما كشفت مياه السيول عن ذلك، فكان الماء كاشفاً للجرائم..

كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به)) شعب الإيمان(5759)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع  الصغير  – (18 / 295).

 وقال في الحديث الصحيح، وهو حديث عظيم ينبغي التأمل والتدبر فيه، وإنزاله على الواقع: ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام))صحيح البخاري(1977)، فالقضية صارت عند هؤلاء متساوية، فلا فرق بين الحلال والحرام، لا فرق بين أن يأخذه من بيع طيب، أو من كسب خبيث، بل إن البض يتبجح إذا أعطي رشوة قليلة بأن يقول لمعطيها: أتريدني أن أدخل جهنم في هذا فقط! وإنما أدخل النار على شيء يسوى!، أي برشوة كثيرة!، فَوَيْلٌ لهم مما كسبت أيديهم: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (35) سورة التوبة).

التمويل الربوي وصوره

عباد الله: ولما ذكرنا موضوع التمويل المحرم، فإن الناس يتساءلون عن التمويل المباح، وهو توفير المبالغ النقدية للمشاريع، سواء كانت مشاريع استثمارية، أو مشاريع استهلاكية، فردية كانت، أو جماعية، من أفراد، أو من شركات.

ويقف الربا اليوم على قائمة أنواع التمويل في العالم، فالتمويل الربوي بصوره المتنوعة هو الذي يدخل في المشاريع والأفراد والشركات، وتتسابق المصارف بشتى الطرق والحيل لإيقاع الناس في ذلك، وترغيبهم بشتى الوسائل، وإغرائهم بالاقتراض، وتمويل مشاريعهم بالربا، سواء كان عبر عقد يتم فيه الإيداع في حساب من يسمى بالمستفيد، وليت شعري ما الفائدة عندما يأخذ ما لعن الله أخذه، وآخذه، وآكله، وكاتبه، وشاهديه؟!.

أأو كان بالبطاقات الائتمانية التي توقع الناس أيضاً في الحرام، وكلٌ مسئول عما يأخذ، فإننا لا نضع الحرام واللوم كله على المصارف الربوية، ثم نقول للناس أنتم معذورون، كلا والله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (38) سورة المدثر)، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (95) سورة مريم)، وكما لعن الله آكل الربا، لعن المُؤكل، فالقروض سواءً كانت قروض شخصية، أو تجارية، إذا كان فيها هذه الزيادات، فهي ربا محرم، وكل قرض جر نفعاً فهو ربا.

وكذلك من الصور المحرمة مثل تأجيل سداد الديون مقابل الزيادة، وتفعله اليوم شركات عقارية كبرى في العالم؛ ممن أسقطهم الله بعدما أخذوا ابتداء تمويلاً محرماً، فإذا بهم يسقطون في فخ تسديد الديون، وتأجيل مقابل زيادة إضافية، بل سقطت دول – يا عباد الله – نتيجة الربا كما حصل لليونان ولاتفيا وغيرها، وفي ذلك آيات وعظات، وهنالك ما هو قادم منها.

وعمليات التجميل والترقيع التي يقوم بها من يقوم، لأجل إنقاذ من يريدون إنقاذه، ستفشل في النهاية؛ لأن الله أذن بالحرب، وأعلن ذلك، وهذه المحاربة الإلهية في قوله عز وجل: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} (279) سورة البقرة) وسيجد العالم أثرها واضحاً في الأرض؛ لأن الحرب أعلنها القوي المتين، الكبير، المتعال الجبار، فمن الذي سيستطيع النفاذ من سطوته؟!.

وكذلك القروض المشروعة بحصول الدائن على منفعة من الربا أيضاً، وكذلك الفائدة على القروض لتمويل الأنشطة التجارية، كلها ربا في ربا.

وأيضاً عند فتح الاعتمادات هنالك أنواع من الربا، وهنالك فتح مباح، وأيضاً الزيادة في الدين في ذمة المشتري ثمناً لسلعة، أو خدمات، وأيضاً عمليات قلب الديون، بأن يقول: عليك دين للمصرف تعال نسدده عنك، وتأخذ منا تورق آخر، ولعب في لعب، وحيلة في حيلة، وإيقاع وإغراء للمساكين الذين لا يجيدون أن يحسبوها.

وأما عمليات التورق والتمويل عبرها، بأن يشتري المصرف السلعة شراءً حقيقياً، ثم يبيعها على العميل بالأقساط، ويسلمها للعميل، فيأخذها العميل، ويبيعها على غير المصرف بمعرفته هو، فهذا جائز، لا بأس به، عند كثير من العلماء، واشترط بعضهم الحاجة لهذا العمل، بأن يشتري بزيادة ليبيع بأقل، وهذا الذي أباحه أكثر العلماء، لا يعني أن من الحكمة للإنسان أن يدخل فيه دائماً، فقد يدخل بعض الناس في تورق مباح ينتهي إلى تورم المبلغ ثم تورط في دفعه، فيؤدي التورق إلى التورط.

وهناك تمويلات بتورق محرم، مثل أن يشتري البنك السلعة بزعمه، ثم لا يراها المشتري من البنك، ولا يعرف عنها شيئاً، لا يكاد يعرف عنها شيئاً، ولا له قصد فيها أصلاً، ثم يقول المصرف: أنا أبيعها عنك وأدخل المبلغ في حسابك، وهذا المشتري لا رأى، ولا عاين، ولا استلم، والعملية أوهام في أوهام، وصورة صورية، وأوراق في أوراق، وعملية ورقية، ولا شك أن هذه حيل، والله عز وجل أجل وأعظم من أن يحتال شخص عليه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (142) سورة النساء) {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (30) سورة الأنفال).

عباد الله: فهذه الصورة الورقية، وإن كان هناك لجان شرعية ساهمت في شرعنة الباطل، وتسويغ الحرام، فإن اللجنة، ومن وظف اللجنة ودفع راتب اللجنة كلهم عند الله سينتهون، وحسابهم عند ربهم، وبعض الناس بزعم تشجيع الخطوات الإسلامية في المصارف، قاموا بإباحة أشياء وهي محرمة، فماذا سينفعهم عند الله! الحرام حرام، وكون هنالك مرحلة انتقالية لا يجيز لنا أن نجعل الحرام حلالاً، الحرام حرام، ويبقى حراماً، والوضوح لابد منه، وبعض الناس إذا فعل شيئاً، وهو يعرف أنه معصية يفعله ربما عن شيء من الاستحياء، ويتوب بعده، ويرى نفسه، ويقلل منه، أما إذا قلت له حلال، فسيفعله بلا حواجز نفسية، ولا أي احتياطات، ولا توبة، وهذا من الفروق العظيمة.

وكذلك من التورق المحرم: أن لا يشتري البنك السلعة، وإنما يقول لك: انظر أي سلعة تريد، وأنا أسدد عنك، ثم تسدد لي بزيادة، وهذا حرام أوضح من الذي قبله بلا شك ولا ريب.

التمويل المباح وطرقه

التورق والقرض

أما التمويل المباح: فقد ذكرنا له مثالاً في مسألة التورق الصحيح التي أجازها كثير من أهل العلم،

ومن مصادر التمويل المباح ولا شك: القرض، وفي الإسلام هناك نصوص كثيرة تجعل المسلم يفكر فعلاً، ما هو مراد الشارع من وراء الحث على القرض؟ وما هو النفع العظيم الذي سيحصل من وراء ذلك، وربما تأملت اليوم -يا عبد الله- نتيجة الأزمة المالية العالمية كيف أن قروض الحكومات والبنوك كادت أن تصل إلى الصفر، معترفين بوجوب أن يكون القرض بدون فائدة؛ لأن الفوائد قد أدت إلى كوارث، فنزل مستوى الفائدة تقريباً إلى الصفر في بعض الأوقات؛ اعترافاً رغماً عن أنوفهم بوجوب أن يكون القرض كذلك، وأحاديث: ((كل قرض صدقة))المعجم الصعير للطبراني: (402)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير – (18 / 318).

((ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقته مرة))سنن ابن ماجه (2430)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب(1/219).

المضاربة

وأيضاً من طرق التمويل: المضاربة، فتكون الفكرة أو الجهد من شخص، والتمويل من جهة أخرى، وهذا العقد من أعظم العقود نفعاً في البشرية؛ لأن كثيراً من الناس يملكون أفكاراً، وعندهم استعداد للعمل والجهد، ولكن ليس عندهم تمويل، ويملك آخرون أموالاً، وليس عندهم وقت، أو استعداد لبذل الجهد والكد والتعب في سبيل تثميرها وتنميتها، فيحصل نتيجة هذا التلاقح بين أصحاب الأفكار والمجهودات، وبين أصحاب الأموال شركة المضاربة العظيمة التي جاء بها الشرع في الترغيب بها.

وقد كان هذا معروفاً أيام الصحابة، فكانت الأموال تدفع من الناس إلى القائمين على القوافل التجارية؛ ليذهبوا بها، فيشتروا، ويبيعوا، ويربحوا، ويرجعوا بالأرباح لمن أعطاهم المال، وهذه عملية التقليب والتجارة التي ثمًَّرت ونمت كثيراً من أموال الناس في القديم، وكانت أرباح بيوت المسلمين في مكة والمدينة تقوم على تجارة القوافل إلى الشام واليمن، ولا يكاد يوجد بيت أحياناً في مكة إلا ولهذه القافلة منهم سهم، وقد تاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك قبل البعثة بأموال خديجة -رضي الله تعالى عنها-.

والمضارب أمين وأجير ووكيل وشريك، فأمين إذا قبض المال، ووكيل إذا تصرف فيه، وشريك إذا ظهر فيه الربح.

المرابحة

ومن طرق التمويل أيضاً المباحة: ما يسمى ببيع المرابحة إذا كان صحيحاً شرعاً، أجازه بعض العلماء، وهو أن يخبر العميل الجهة الممولة أنه يريد السلعة الفلانية، ولا يجوز أن يشرطوا عليه هنا عقداً يوقَع قبل أن يشتروا السلع، أبداً، وإنما يقومون بشراء السلعة على المخاطرة، وهذه التجارة في الإسلام، ومن زعم أن هنالك تجارة بغير خطر أو نسبة خطر، فهو جاهل بالتجارة الشرعية، أما قضية مضمون، وقّع معنا أن تشتري منا إذا اشتريناها لك، فهذا حرام، فيقومون بالشراء والحيازة بعد الشراء، وتكون في ملكهم وحوزتهم، وتحت يدهم، والضمان عليهم إذا تلفت، ثم يقومون ببيعها بعد ذلك للراغب، أو من يسمونه الآن الآمر بالشراء، ويربحون الآن من وراء الأقساط وهو يقضي حاجته.

الشراكة المتناقصة

لكنني أجد -أيها الأخوة- أن من أعظم أنواع التمويل في الإسلام المشاركة الحقيقة، فيدخل الممول شريكاً، يدفع مع هذا العامل، وقد يدفع العامل جزءاً من رأس المال، وتكون الإدارة له بمقابل مفصول عن الشركة، والأرباح بالنسبة المعينة المتفق عليها، ولا مانع بعد انعقاد هذا العقد أن يكون هنالك ما يسمى بالشراكة المتناقصة، وهي أن يقوم العميل أو الآمر بالشراء أو الذي يرغب في المشاركة الذي قدم الطلب بشراء نصيب الممول بعد ذلك بعقد منفصل غير مشروط في البداية، فتؤول إليه الشركة تدريجياً، كلما دفع قسطاً اشترى جزء ونسبة، حتى يملك المشروع مائة في المائة، وهذا عقد الشراكة المتناقصة، هو الذي يحل مشكلة أن الممول يريد الانسحاب من الصفقة بأسرع وقت؛ لأنه يريد أن يشغل المال في أشياء أخرى أو مع أناس آخرين، وصاحب المشروع يريد أن يتملك المشروع بأسرع وقت، فهذه عميلة الشراكة المتناقصة الشرعية بشروطها فيها أيضاً مصالح كثيرة.

دعم المشاريع الصغيرة

ويبقى دعم المشاريع الصغيرة للفقراء والمحتاجين، وأصحاب ما يسمى بالمشاريع الصغيرة عبر الصدقات من أنواع التمويل المهمة جداً، التي يقوم بها الأغنياء بمسئوليتهم الاجتماعية تجاه من لا يقدرون على التمويل {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (275) سورة البقرة، الحلال واضح بيّن ((الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات))صحيح البخاري(52)، الرجوع فيها إلى أهل العلم.

نسأل الله عز وجل أن يجعل مكاسبنا حلالا، اللهم طيّب مطاعمنا يا رب العالمين، أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور اغفر لنا أجمعين، لا تفرق جمعنا هذا في يومنا هذا إلا بذنب مغفور، وعمل مبرور، وأخرجنا من ذنوبنا كيوم ولدتنا أمهاتنا، واكتب لنا التوفيق والهدى والسداد، أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وعافنا واعف عنا، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.