وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء

وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، يمنُّ على من يشاء من عباده بالنعم، ويختار من عباده أصفياء وشهداء، ويبتلي عباده بالخير والشر فتنة، ويُجازي كل نفس بما تسعى، أشهد أنه لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن المتأمل في مرور الأيام والليالي، والشهور والأعوام في سجلات الحضارات والأمم، والناظر في تأريخها؛ يجد أن كل أمة تمرُّ بمراحل متعددة وفترة ازدهار وقوة وانتصار, أو ضعف وخور وهزيمة, والمتأمل في واقع أمة الإسلام يجدها في أول أمرها كانت أمةً مستضعفة عند بداية الدعوة, ثم ازدهرت وانتشرت في كل بقاع الدنيا, وقاموا بالجهاد في سبيل الله وغزو الكفار والملحدين في شتى المجالات، فكان منهم من قُتِلَ في سبيل الله – تبارك وتعالى – شهيداً، ومنهم من انقلب بأجره وما نال من الغنيمة مستشعرين قول الله – تبارك وتعالى – حيث قال مواسياً لهم ومسلياً, ومعزياً بأن من مات في سبيل الله – تبارك وتعالى – فقد اتخذه الله – تبارك وتعالى – واصطفاه على الآخرين فقال سبحانه: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}1.

إن التعبير العجيب في هذه الآية عن المعنى العميق بأن هؤلاء الشهداء قد اختارهم الله – تبارك وتعالى – من بين المجاهدين، واتخذهم لنفسه شهداء؛ فليست خسارة ولا هزيمة أن يستشهد الإنسان في سبيل الله – تبارك وتعالى -، فإنما ذلك اختيار له وانتقاء من بين المجاهدين، وتكريم واختصاص, ليستخلصهم الله – تعالى – لنفسه، ويخصهم بقربه، فأعْظِم بها من نعمة يتمناها كثير من الناس.

والمأساة ما نحن فيه من التأخّر عن القتال، والرضا بالبقاء مع الخوالف، أما أولئك الرجال فقد نفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا وقتَلوا وقُتلوا في الصفوف الأولى – نسأل الله أن يتقبّلهم في الشُهداء -, إن المأساة أن يأتي جحافل الصليب، وإخوان القردة والخنازير لتحتل بلاد المسلمين ثم لا يخرج لها من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – إلا فئة قليلة من الرجال, مأساة أن يزهد المسلمون في الشهادة في سبيل الله – تبارك وتعالى -، ويتنادى الرجال بالتثبيط والقعود مع ربات البيوت في البيوت، وبلاد الإسلام تُستباح، إنها أعظم المآسي؛ مأساة أن تكون السيوف مسلطة على رقاب المسلمين في شتى بقاع المسلمين، والسيّاف الصليبي واليهودي قد رفع ذراعه ليقطع رؤوس المسلمين, ثم تكون المصلحة في الجلوس وانتظار القدر قال الله – تبارك وتعالى -: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}2.

إن هؤلاء أحياء بلا شك عند ربهم يرزقون في جنات عدن، لكن من الأموات من يمشون على ظهر الأرض: أموات القلوب والهمم, أموات الرجولة والقِيَم – ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم -, فيا من أشفق على أهل الجهاد في غزة، وفي كل مكان؛ هلّا كان على نفسك كان هذا الإشفاقُ.

أخي في الله: إن أهل الجهاد في نعمة لا يعلمها إلا الله – تبارك وتعالى -، كيف لا؟ وهم فيما هم فيه من حفظ الدين الإسلامي الحنيف، والذود عن حياضه بجهاد الكافرين, وإزهاق أنفسهم رخيصة في سبيل الله – تبارك وتعالى -، فهم إن قتلوا ففي جنات عدن، وذاك اصطفاء من الله – تبارك وتعالى – لهم, وإن لم يقتلوا وانتصروا فلهم الأجر العظيم الذي وعدهم به ربهم الكريم، فإن رباط يوم في سبيل الله – تبارك وتعالى – خير من الدنيا وما فيها، فعن سهل بن سعد الساعدي – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها))3، وللشهيد ست خصال يعطاها عند أول قطرة من دمه كما ثبت ذلك عن قيس الجذامي – رضي الله عنه – (وهو رجل كانت له صحبة) قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: يكفَّر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويؤمَّن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلى حلَّة الإيمان))4؛ فهم على كل حال في نعمة عظيمة بخلاف ما عليه هؤلاء المخلفين المثبطين من جلوس في الدور، وانتظار الأكل والشراب، وتمتع بالنساء والزوجات؛ فلا نبك على المجاهدين الأبطال؛ بل نبكي على أنفسنا التي أضعناها بالتخلف عن الجهاد في سبيل رب العالمين قال أبو جعفر الطبري – رحمه الله -: "وأما قوله: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} فإنه يعني: {وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} ويتخذ منكم شهداء أي: ليكرم منكم بالشهادة من أراد أن يكرمه بها، والشهداء جمع شهيد كما قال ابن إسحاق – رحمه الله -: {وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} أي: ليميز بين المؤمنين والمنافقين، وليكرم من أكرم من أهل الإيمان بالشهادة؛ وقال ابن جريج في قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} فإن المسلمين كانوا يسألون ربهم: "ربنا أرنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين، ونبليك فيه خيراً، ونلتمس فيه الشهادة"، فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ منهم شهداء؛ وعن قتادة – رحمه الله – قوله : {وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} فكرَّم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوهم، ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله؛ وعن ابن جريج – رحمه الله -: {وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} قال: قال ابن عباس – رضي الله عنه -: كانوا يسألون الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ منهم شهداء؛ وقال الضحاك – رحمه الله – في قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يوماً كيوم بدر، يبلون فيه خيراً، ويرزقون فيه الشهادة، ويرزقون الجنة والحياة والرزق، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ الله منهم شهداء، وهم الذين ذكرهم الله – عز وجل – فقال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ}5"6؛ وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: "قال ابن عباس – رضي الله عنه -: في مثل هذا لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} يعني يقتلون في سبيله، ويبذلون مهجهم في مرضاته {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}7 أي يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به، وقوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم، ومحقهم وفنائهم8".

وفي الوقت الذي قدَّر الله – تبارك وتعالى – فيه عقاب الأمة على يد أعدائها؛ مكن لهؤلاء الأعداء في الأرض حسب سنته فيمن نسوا ما ذكروا به؛ ليتم بشأنهم قدر آخر هو التدمير في الموعد المقدر عن الله – تبارك وتعالى -، عقاباً لهم على إعراضهم وطغيانهم وتجبرهم، فضلاً عن القدر المقدر لهم يوم القيامة، ولذا حلَّت بالمسلمين الهزيمة في غزوة أحد وذلك بمجرد مخالفة من مجموعة قليلة العدد خالفوا النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما أمرهم بعدم النزول، فنزلوا, وكذلك فيه تمحيص لهم ليستبين المؤمن الصادق من غيره، ولذا قال الله – تبارك وتعالى -: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}9, وقال: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}10, وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}11, وقال – جل وعلا -: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}12، وقال – عز وجل -: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}13, وقال الله – سبحانه وبحمده -: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}14, وقال الله – تبارك وتعالى -: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}15, قال الحافظ الله – تبارك وتعالى -: "أي في حال علوكم على عدوكم، فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمام في المهادنة والمعاهدة مصلحة؛ فله أن يفعل ذلك كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين صده كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح، ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين؛ فأجابهم – صلى الله عليه وسلم – إلى ذلك، وقوله جلَّت عظمته: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي: ولن يحبطها ويبطلها، ويسلبكم إياها، بل يوفيكم ثوابها، ولا ينقصكم منها شيئاً والله أعلم"16, فأبشروا وأملوا فالنصر قادم فانصروا الله – تبارك وتعالى – ينصركم قال الله – تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}17, نسأل الله – تعالى – أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً, وأن يجعل النصر حليف المجاهدين بمنِّه وكرمه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


1 سورة آل عمران (140).

2 سورة آل عمران (169).

3 رواه البخاري برقم (2735).

4 رواه أحمد في المسند برقم (17818) وقال شعيب الأرناؤوط: حديث حسن.

5 سورة البقرة (154).

6 تفسير الطبري (3/447).

7 سورة آل عمران (140-141).

8 تفسير ابن كثير (1/541).

9 سورة آل عمران (141).

10 سورة يوسف (21).

11 سورة البقرة (214).

12 سورة آل عمران (142).

13 سورة آل عمران (179).

14 سورة النساء (104).

15 سورة محمد (35).

16 تفسير ابن كثير (4/231).

17 سورة محمد (7).