حريص عليكم

حـريص عـليكم

الحمد الذي أرسل رسوله بالهدى، ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، وهو الذي جعل في الأرض قمراً كما جعل في السماء قمراً منيراً، وأسرج لأهلها سراجاً مضيئاً كما جعل في السماء سراجاً كبيراً، اللهم صل على القمر المنير، والسراج الكبير، والنور العظيم، والبشير النذير، وعلى آله وصحبه.. أما بعد:

فإن الله – تعالى – وصف رسوله  بأعظم الأوصاف التي تدل على اهتمامه  بأمته، وحرصه عليهم، وتألمه، وتخوفه على أمته قال  : لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (سورة التوبة:128).

ومعنى حريص عليكم أي على هدايتكم، ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم.

أخي المسلم: لقد بلغ حرص النبي  على أمته مبلغاً عظيماً كما قال أبو ذر  : تركنا رسول الله  وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علماً قال: وقال رسول الله  : ما بقي شيء يقرِّب من الجنة، ويباعد من النار؛ إلا وقد بُين لكم1

ومن حرص النبي  على أمته خوفه عليهم من الوقوع في طريق أهل النار، ومن الهلاك في الدنيا والآخرة كما روى عبد الله بن مسعود  قال: قال رسول الله  : إن الله لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش أو الذباب2

وهو حريص على جلب السعادة للناس كلهم في الدنيا، وفي الآخرة، ويتمنى لهم الجنة كلهم فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله  أتاه ملكان فيما يرى النائم فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمته، فقال: إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة، ولم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة، ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضاً معشبة، وحياضاً رِواءً؛ تتبعوني؟ فقالوا: نعم، قال: فانطلق بهم فأوردهم رياضاً معشبة، وحياضاً رِواء، فأكلوا، وشربوا، وسمنوا، فقال لهم: ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضاً معشبة، وحياضاً رواءً؛ أن تتبعوني؟ فقالوا: بلى فقال: فإن بين أيديكم رياضاً هي أعشب من هذه، وحياضاً هي أروى من هذه، فاتبعوني، فقالت طائفة: صدق والله لنتبعه، وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه3.

فانظر أخي إلى حرص نبينا  على أن يتمتع الناس بحياة سعيدة طيبة، لكن للأسف الناس يعرضون عن شريعته، وعن سنته؛ حتى كثير من المنتسبين إلى الإسلام تجدهم أبعد ما يكونون عن السنة النبوية ظاهراً وباطناً، فيصابون بأنواع القلق والاضطراب، والشقاء في الحياة الدنيا قبل الآخرة! وهو  يدعوهم إلى الرياض النظرة، والمعشبة، والحياض الرواء، والحدائق الغناء من راحة الإيمان وروحه، ومن الحياة الطيبة بذكر الله، وطاعته مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (سورة النحل:97).

ومن حرص النبي  على أمته بكاؤه عليها، وشدة خوفه من وقوعها في العذاب كما في الحديث الصحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أن النبي  تلا قول الله ​​​​​​​ في إبراهيم  : رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي (سورة إبراهيم:36)، وقال عيسى  : إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (سورة المائدة:118)، فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله ​​​​​​​ : يا جبريل اذهب إلى محمد – وربك أعلم – فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل – عليه الصلاة والسلام – فسأله، فأخبره رسول الله  بما قال وهو أعلم، فقال الله  : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوءك4 فهذا ما يتعلق بمواقف الدنيا وهي كثيرة، بل كل حياته  دعوة وهداية الناس إلى الحق، بأسلوب يأخذ بالقلوب، فلم يبلغ أحد مبلغه .

ومن حرص رسول الله  في الآخرة على أمته، وخوفه عليهم، ورحمته لهم؛ أنه يسأل الله – تعالى – إخراج من وقع في النار من أمته، كما ثبت في حديث الشفاعة الطويل العظيم أن الناس يأتون يوم القيامة إلى بعض الأنبياء فكل منهم يقول: نفسي نفسَي، ثم يأتون إلى النبي  فيشفع للناس في القضاء، وفي إخراج أهل الكبائر من أمته من النار كما قال : فيأتونني فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أُمَّتي أمتي! فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل ثم أعود، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل.5

فسبحان الله! كم بين قول الرسل – عليهم السلام -: نفسي نفسي، وبين قول نبينا محمد  : أمتي أمتي من معاني عظيمة، وأسرار كريمة؟ إن هذا النبي الحريص على الأمة، الرؤوف الرحيم بها؛ لهو حقيق بأن يطاع، وأن يقتفى أثره، وتتبع سنته، ويستمسك بحبله، ويعظم أمره، ويدافع عن ملته وشرعته  تسليماً كثيراً.


1 رواه الطبراني في المعجم الكبير، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1803).

2 رواه أحمد وأبو يعلى الموصلي، وقال شعيب الأرناؤوط في التعليق على المسند: إسناده حسن.

3 رواه الإمام أحمد، والحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم، وقال الأرناؤوط في التعليق على المسند: إسناده ضعيف.

4 رواه الإمام مسلم.

5 رواه البخاري ومسلم، وأحمد وغيرهم.