أعظم الظلم

أعظم الظلم

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، نزَّه نفسه عن الظلم فقال جل جلاله: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}(الكهف:49)، وقال: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(يونس:44)، والصلاة والسلام على خير الأنام محمد بن عبد الله الصادق الأمين، خير البرية، وأفضل البشرية؛ من أرسله الله رحمة للعالمين، فأنار به الصدور، وأزال الله به ظلمات الجاهلية وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(لقمان:13)، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}(الأنعام:82) قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينا لم يظلم؟ فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}" رواه البخاري برقم (32)؛ ومسلم برقم (124)، فهذه وصية من لقمان لابنه يخبره فيها بأن الشرك هو الظلم العظيم، وإلا فإن كل معصية يُعتبر الإنسان فيها ظالم لنفسه لأنه تسبب في عقابها بمخالفته أمر ربه تبارك وتعالى؛ قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله: "فإن ما نهى الله عنه راجع إلى الظلم، وكل ما أمر به راجع إلى العدل، ولهذا قال الله تبارك تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}(الحديد:25)، فأخبر أنه أرسل الرسل، وأنزل الكتاب والميزان؛ لأجل قيام الناس بالقسط"1.

والظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه، ومعناه هنا: أن تجعل عبادتك لغير ربك الذي خلقك، أو أن تصرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله تبارك وتعالى، أو أن تجعل لله نداً وهو خلقك، أو أن تخاف، أو ترجو، أو تدعو، أو تستغيث، أو تلجأ، أو تقدم نوعاً من أنواع العبادة من ذبحٍ أو قربى لغير الله تبارك وتعالى، فهذا كله شرك حتى لو كان لنبي مرسل، أو ولي صالح، أو ملك مقرب؛ وبعض الناس يطوف بالقبر، ويزور الولي الفلاني، ويقدم له النذور والقربات، ويدعوه من دون الله تبارك وتعالى، بل وصل الأمر ببعض أولئك الظُلَّال أن يسجد أمام القبر داعياً صاحبه باكياً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال الله: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(الحج:46)، هذا شرك أكبر مخرج من الملة، لا ينفع معه صوم ولا حج، ولا صلاة ولا عبادة؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}(الفرقان:23)، كما أنه محبط للأعمال فقد قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(الزمر:65)، فالشرك ذنب عظيم لا يغفره الله تبارك وتعالى لمن مات عليه.

وللشرك صور كثيرة كالدعاء والرجاء، والاستعانة والاستغاثة، والتوكل والنذر، والذبح لغير الله تبارك وتعالى، وأي نوع من أنواع العبادة لا تصرف إلا لله، فالذين يطوفون بالقبور، ويقدمون لها النذور، ويعبدونها من دون الله جل وعلا وقعوا فيما نهاهم الله عنه، وحذرهم منه وهو الإشراك به، مع أن هؤلاء الذين يصرفون لهم تلك الأمور لا يملكون نفعاً ولا ضراً قال الله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}(فاطر:14)، فمن الظلم: أن تصرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله تبارك وتعالى.

ومن أبرز مظاهر الشرك المعاصر مايلي:

1. أظهرها وأشهرها دعاء الأموات والغائبين، والاستغاثة بهم لكشف الضر، أو طلب النفع، وقضاء الحاجات؛ كطلبهم شفاء المرضى، والتوسعة في الرزق ونحو ذلك، والله تبارك وتعالى قد عدَّ هذا من أجلى صور الشرك والكفر والخروج من ملة الإسلام فقال تبارك وتعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ}(يونس:106)، وبيَّن الظلم في الآية الأخرى فقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(لقمان:13).

2. التبرك والتمسح على عتبات القبور والأضرحة وبعض الأحجار والأشجار، واعتقاد النفع فيها مع أنها لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً؛ فضلاً عن أن تملك لغيرها ذلك، وقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه الذين كانوا حديثي العهد بالكفر في بداية إسلامهم لما قالوا له: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط وهي شجرة كان المشركون يعلقون عليها أسلحتهم رجاء بركتها، فظن من جَهِلَ خطورة هذا الفعل أنه جائز كما في حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى خيبر مرَّ بشجرة للمشركين يقال لها "ذات أنواط" يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنوط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم))2، فعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل كمن يعبد غير الله؛ وهو كفر لاشك فيه، إلا أن القائلين لهذا القول لم يكفروا فهم معذورون بجهلهم إذ كانوا حدثاء عهدٍ بكفر.

3. الذبح لغير الله كمن يذبح للجن والأولياء، وعلى عتبات القبور، والله تبارك وتعالى قد أمر أن تكون كل العبادات له فقال: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}(الأنعام:162-163)، والرسول صلى الله عليه وسلم قد لعن من ذبح لغير الله تبارك وتعالى فعن أبي الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه قال: كنت عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فأتاه رجل فقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسِرُّ إليك؟ قال: فغضب، وقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسرُّ إليَّ شيئاً يكتمه الناس، غير أنه قد حدثني بكلمات أربع، قال فقال: ما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: ((لعن الله من لعن والده، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثا، ولعن الله من غيَّر منار الأرض)) رواه مسلم برقم (1978).

4. الحكم بغير ما أنزل الله وهو نوع من أنواع الشرك؛ لأن التحاكم نوع من العبادات التي لا تصرف إلا لله كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(يوسف:40)، وقال في الآية الأخرى: {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}(الكهف:26)، والتشريع حق خالص لله، فمن شرَّع لعباد الله ما لم يأذن به الله فهو مشرك في الربوبية والألوهية، وهو من أغلظ أنواع الشرك والعياذ بالله.

5. الغلو في الصالحين أو في الأئمة المتبوعين، واعتقاد العصمة لهم، وإعطاؤهم بعض خصائص الرب تبارك وتعالى؛ كمن يعتقد في بعض الأولياء أنه يتصرف في الكون كما يقول بعضهم: "عبد القادر يا جيلاني، يا متصرف في الأكواني"، بل أصبحت قبور الصالحين والأولياء تقصد بالزيارة لطلب الحاجات، ودفع المهمات كما في بعض البلدان كقبر البدوي، وابن علوان، والجيلاني، والدسوقي، والسيدة زينب، والحسن، وغيرها.

ومن الغلو في الصالحين ما يعتقده بعض الجهلة في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من أنهم يعلمون الغيب، ويتصرفون في الكون، وهذا كله كفر بالله تبارك وتعالى، ومشاركة للمخلوق في خصائص الخالق جل وعلا.

6. الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم ومدحه بالمدائح التي فيها بعض صفات الربوبية، مع أنه قد جاء عنه عليه الصلاة والسلام النهي عن الغلو فيه كما في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله)) رواه البخاري برقم (3261).

ومن مظاهر الغلو فيه عليه الصلاة والسلام:

أ – دعاؤه والاستغاثة به كمن يقول: "يارسول الله اغثني، واكشف كربتي" كما يفعل بعض الجهلة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة النبوية، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، قال الله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(الأعراف:188)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لن يدخل أحداً عملُه الجنةَ))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((لا ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا، ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب)) رواه البخاري برقم (5349)؛ ومسلم برقم (2816)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(الشعراء:214)، فقال: ((يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً)) رواه البخاري برقم (2602)؛ ومسلم برقم (206).

ب- اعتقاد أنه يتصرف في الكون، وأنه يعلم الغيب بعد موته كما يقول صاحب البردة:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ بـه         سواك عند حلول الحادث العمم

فإن من جودك الدنيــا وضرتها         ومن علومك علم اللوح والقلم

مع أن الله تبارك وتعالى قال في كتابه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(الأعراف:188)، هذا وقد كثرت الأدلة الشرعية على التحذير من الشرك، وما يجره على العباد من خزي وعذاب يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً}(النساء:48)، وفي الآية الأخرى: {… فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً}(النساء:116)، ويقول سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}(الزمر:65)، ويقول مبيناً أن الشرك سبب لإحباط الأعمال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأنعام:88).

وفق الله تبارك وتعالى الجميع لطاعته وتوحيده، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.


 


1 مجموع الفتاوى (18/ 157) لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، تحقق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، ط3 (1426هـ- 2005م).

2 رواه الترمذي في الجامع الصحيح برقم (2180) وقال: هذا حديث حسن صحيح للإمام محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي بيروت؛ وأحمد في المسند برقم (21947)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين، ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط2 (1420هـ-1999م)؛ وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (5408) لمحمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي – بيروت، ط3 (1405-1985م)؛ وفي ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم برقم(76) للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي – بيروت، ط3 (1413هـ-1993م).