أهل الجنة كل ضعيف متضعِّف
الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، نحمده ونشكره حمداً كثيراً سرمداً، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله أحمدَ، وعلى آله، وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد:
خلق الله الجنة لمن أطاعه من عباده في هذه الدنيا، وصراط الله واضح مستقيم لا يزيغ عنه إلا هالك، وليس بين الله وبين أحد نسب ولا صلة غير العمل الصالح، والقلب السليم، والجنة طيبة لا تدخلها إلا نفس مؤمنة، ولما كان أكثر المترفين منحرفين عن الصراط المستقيم، وهم السبب في هلاك الأمم وإهلاكها كما قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (سورة الإسراء:16)، لما كان الأمر كذلك كان أصحاب الجنة هم الضعفاء المغلوبين، المدفوعين بالأبواب، وقلَّ أن تجد غنياً مترفاً وهو صالح في نفسه، وأهله، وماله، فلما كان أكثر أهل الجنة المساكين والضعفاء كان أهل النار المتكبرين، والجبارين، والطغاة، وأغلب من تبع الأنبياء من ضعفاء الناس، ومساكينهم؛ كما هو معلوم مذكور في التاريخ، وقد بيَّن الله – تعالى – كثيراً من ذلك في قصص أنبيائه، فذكر عن قوم نوح الكفرة أنهم سخروا من أتباع نوح بسبب أنهم من الفقراء والبسطاء، والذين لا سلطان لهم ولا جاه: فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (سورة هود:27)، وبنو إسرائيل أتباع موسى كذلك كانوا مستضعفين من قبل فرعون وقومه، وأتباع عيسى كذلك، وغيرهم، أما أتباع نبينا ﷺ فهم خير شاهد على ذلك خاصة في بداية الإسلام، فبلال، وصهيب، وزيد بن حارثة، وعمار بن ياسر وأسرته، وغيرهم ممن عذبوا في ذات الله من قبل مجرمي قريش، وكبرائهم، أولئك الصحب الكرام نماذج وأمثلة للمساكين المستضعفين، ولهذا يقول النبي ﷺ عن أولئك كلهم في جميع مراحل التاريخ: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل، جواظ، مستكبر متفق عليه.
قوله: كل ضعيف متضعِّف بكسر العين وبفتحها وهو أضعف، وفي رواية مستضعف، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند الحاكم: الضعفاء المغلوبون، والمراد بالضعيف مَن نفسُه ضعيفة لتواضعه، وضعف حاله في الدنيا، والمستضعف المحتقر لخموله في الدنيا.1 قال القاضي: وقد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها، وإخباتها للإيمان، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء، كما أن معظم أهل النار القسم الآخر، وليس المراد الاستيعاب في الطرفين2
وقد ثبت في الصحيحين ما يؤيد هذا المعنى أي أن أهل الجنة أكثرهم من الضعفاء والمساكين فعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: تحاجت النار والجنة، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس، وسقَطُهم، وعجَزُهم! فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكم ملؤها الحديث متفق عليه.
والمقصود بالضعفاء الذين هم أكثر أهل الجنة هم من كان من المسلمين، أما من كان كافراً فإنه يحشر مع قومه الكافرين، يحشر الظالم والمظلوم من الكفار في نار جهنم كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (سورة البقرة:166-167)، وقال سبحانه: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (سورة غافر:47-48) والسبب في كونهم تبعاً لهم؛ لأن الله قد دعاهم في الدنيا إلى الهدى، واتباع الرسل – عليهم السلام – فأبوا إلا أن يكونوا تبعاً همجاً، رعاعاً لقادتهم من الكفار والمنافقين، ولو اتبعوا أنبياء الله ورسله – عليهم السلام – لأفلحوا كل الفلاح، ولوجدوا في دين الله ما فيه العزة في الدنيا والآخرة، وهذا من رحمة الله – تبارك وتعالى – وعدله في أرضه وسمائه، فإنه لن يجمع للمؤمن المستضعف عذابين: عذاباً في الدنيا، وعذاباً في الآخرة، فمن عاش في هذه الحياة من المسلمين الصادقين مستضعفاً، مهضوماً، مبتلى؛ أكرمه الله – جل وعلا – في الآخرة برحمته، ومغفرته، وجنة عرضها السماوات والأرض.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وتتوب علينا، وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.