{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
نعيش اليوم مع أسلوب فريد من أساليب العتاب، وخطاب جذاب من أساليب الخطاب، نعيش مع آية من آيات الله – عز وجل – التي أنزلها على محمد – صلى الله عليه وسلم – في كتابه الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}1، وكلما ذهب الناس يمنة أو يسرة، أو أخطئوا الطريق السوي؛ قوَّمهم الله – تعالى -، وهداهم بآياته، وأرشدهم ببيناته {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}2.
معنا اليوم آية يعاتب الله – عز وجل – بها أحبابه من أهل الإيمان، ويخاطب بها عبيده، آية من سورة الحديد، وذلك بعد مقاطع مترابطة في السورة، "هذا الشوط امتداد لموضوع السورة الرئيسي: تحقيق حقيقة الإيمان في النفس، حتى ينبثق عنها البذل الخالص في سبيل الله، وفيه من موحيات الإيمان، ومن الإيقاعات المؤثرة؛ قريب مما اشتمل عليه الشوط الأول، بعد ذلك المطلع العميق المثير وهو يبدأ برنة عتاب من الله – سبحانه – للمؤمنين الذين لم يصلوا إلى تلك المرتبة التي يريدها الله لهم؛ وتلويح لهم بما كان من أهل الكتاب قبلهم من قسوة في القلوب، وفسق في الأعمال، وتحذير من هذا المآل الذي انتهى إليه أهل الكتاب بطول الأمد عليهم"3.
إنها آية لا يقرأها مقصرٌ إلا ويراجع حساباته، ولا يسمعها غافل إلا ويستيقظ من غفلته، ولا يتدبرها مذنبٌ إلا ويترك ذنبه إنها قول الله – تعالى -: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}4، وقد تكلم العلماء في معاني هذه الآية فذكروا كلاماً، وجعل صاحب أضواء البيان المعنى على وجهين: الوجه الأول: "(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ) أي: آن للذين آمنوا، والوجه الثاني: أن الاستفهام في جميع ذلك للتقرير، وهو حمل المخاطب على أن يقرَّ فيقول: بلى، وقوله: يأن هو مضارع أنى، يأنى إذا جاء إناه أي: وقته، ومنه قول كعب بن مالك – رضي الله عنه -:
ولقد أنى لك أن تناهي طائعاً أو تستفيق إذا نهاك المـرشد
فقوله: أنى لك أن تناهي طائعاً؛ أي: جاء الإناه: الذي هو الوقت الذي تتناهى فيه طائعاً، أي: حضر وقت تناهيك، ويقال في العربية آن، يئين، كباع يبيع، وأنى يأني، كرمى يرمي، وقد جمع اللغتين قول الشاعر:
ألماً يئن لي أن تجلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا
والمعنى على كلا القولين: أنه حان للمؤمنين، وأنى لهم أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي: جاء الحين والأوان لذلك؛ لكثرة ما تردد عليهم من زواجر القرآن ومواعظه"5.
ومعرفة أسباب النزول للآيات يساعد على الفهم العميق للآية، إذ ذكر أهل التفسير أسباباً لنزول هذه الآية لعل ما ذكره الإمام القرطبي – رحمه الله – فيه خير كثير، يقول: "روي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – لما ترفهوا بالمدينة؛ فنزلت الآية، ولما نزلت هذه الآية قال – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يستبطئكم بالخشوع))، فقالوا عند ذلك: خشعنا، وقال ابن عباس: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين؛ فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وقيل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة؛ وذلك أنهم سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة؛ فنزلت {الر تلك آيات الكتاب المبين..} إلى قوله: {..نحن نقص عليك أحسن القصص..} الآية.
فأخبرهم أن هذا القصص أحسن من غيره، وأنفع لهم؛ فكفوا عن سلمان، ثم سألوه مثل الأول؛ فنزلت {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}، فعلى هذا التأويل يكون الذين آمنوا في العلانية باللسان، قال السدي وغيره: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} بالظاهر وأسروا الكفر، {أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}، وقيل: نزلت في المؤمنين، قال سعد: قيل: يا رسول الله لو قصصت علينا، فنزل نحن نقص عليك، فقالوا بعد زمان: لو حدثتنا فنزل {الله نزل أحسن الحديث} الزمر، فقالوا بعد مدة: لو ذكرتنا، فأنزل الله – تعالى – {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}، ونحوه عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول ما أحدثنا، قال الحسن: استبطأهم وهم أحب خلقه إليه، وقيل: هذا الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد – عليهم السلام -؛ لأنه قال عقيب هذا: (والذين آمنوا بالله ورسله..) الحديد، أي: ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقرآن، وألا يكونوا كمتقدمي قوم موسى وعيسى إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيهم فقست قلوبهم"6.
إن هذه الآية دعوة من الله – تعالى – أن ننظر إلى قلوبنا، ونفتش عن حالها مع الخشوع، لنسألها: أين الخشوع عند تلاوة القرآن؟ أين الخشوع عند ذكر الله – عز وجل -، أين الخشوع الذي يولد الانقياد الكامل لله رب العالمين.
يعاتبهم في ذلك، ويحذرهم من اتباع الذي مضوا ممن آتاهم الله الهدى فلم يستفيدوا منه، آتاهم الله الغيث لتحيا به قلوبهم؛ فلا هي التي أمسكت الماء لينتفع به، ولا هي التي أنبتت ما ينتفع به قال الإمام السعدي – رحمه الله تعالى -: "لما ذكر حال المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات في الدار الآخرة؛ كان ذلك مما يدعو القلوب إلى الخشوع لربها، والاستكانة لعظمته، فعاتب الله المؤمنين على عدم ذلك، فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} أي: ألم يأت الوقت الذي به تلين قلوبهم، وتخشع لذكر الله الذي هو القرآن، وتنقاد لأوامره وزواجره، وما نزل من الحق الذي جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – وهذا فيه الحث على الاجتهاد على خشوع القلب لله – تعالى – ولما أنزله من الكتاب والحكمة، وأن يتذكر المؤمنون المواعظ الإلهية، والأحكام الشرعية كل وقت، ويحاسبوا أنفسهم على ذلك {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ} أي: ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب، والانقياد التام، ثم لم يدوموا عليه، ولم يثبتوا؛ بل طال عليهم الزمان، واستمرت بهم الغفلة؛ فاضمحل إيمانهم، وزال إيقانهم، {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}، فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تُذَكَّر بما أنزل الله، وتُنَاطَق بالحكمة، ولا ينبغي الغفلة عن ذلك فإنه سبب لقسوة القلب، وجمود العين"7.
إنه ليس عتاباً فقط بل تحذير ألا يقع المؤمن في التقاعس عن الاستجابة لله ورسوله، وفي الآية بيان أن ما يحصل من قسوة القلوب، وعدم استجابتها لعلام الغيوب؛ هو الفسوق والتمرد عن طاعة الله – جل وعلا ، "إنه عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم؛ واستبطاء للاستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله؛ فبعث فيها الرسول – صلى الله عليه وسلم – يدعوها إلى الإيمان بربها، ونزّل عليه الآيات البينات ليخرجها من الظلمات إلى النور؛ وأراها من الآيات في الكون والخلق ما يبصّر ويحذّر.
عتاب فيه الود، وفيه الحض، وفيه الاستجاشة إلى الشعور بجلال الله، والخشوع لذكره، وتلقي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الحق من الروعة والخشية، والطاعة والاستسلام، مع رائحة التنديد والاستبطاء في السؤال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}، وإلى جانب التحضيض والاستبطاء تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ حين يمتد بها الزمن بدون جلاء، وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين حين تغفل عن ذكر الله، وحين لا تخشع للحق: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}، وليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج.
إن هذا القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان، وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور، ويرف كالشعاع؛ فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقساً، وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم، فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع، ولا بد من الطرق عليه حتى يرق ويشف؛ ولا بد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة.
ولكن لا يأس من قلب خمد وجمد، وقسا وتبلد، فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور، وأن يخشع لذكر الله، فالله يحيي الأرض بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر، وتمنح الأكل والثمار، كذلك القلوب حين يشاء الله"8.
نعم لا يئس ما مدام ماء الحياة جارٍ، وما دام كتاب الله موجود تستشفي به القلوب، وتحيا به الأفئدة، فالأرض الميتة التي قد يأس منها صاحبها يحيها الله – عز وجل – وهي جماد، ويبعث الحياة فيها بالغيث المبارك الذي ينزله الله – تعالى – من السماء {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ}9، يرسل الله – جل جلاله – الماء إلى الأرض اليابسة فتحيا بعد موتها، وهذا المثل جاء في القرآن بعد ذكر قسوة القلوب ليذهب اليأس من القلوب حتى تلجأ إلى الله – تعالى -، يقول سبحانه بعد آية (ألم يأن للذي آمنوا..): {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}10 يقول الإمام الشوكاني – رحمه الله تعالى -: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فهو قادر على أن يبعث الأجسام بعد موتها، ويلين القلوب بعد قسوتها، {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ} التي من جملتها هذه الآيات؛ {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: كي تعقلوا ما تضمنته من المواعظ، وتعملوا بموجب ذلك"11.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يصلح فساد قلوبنا، وأن يرزقنا الخشوع، وأن يجعلنا من عباده الأتقياء الأنقياء الأخفياء، وصلي اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.