أمسك عليك لسانك

أمسك عليك لسانك

 

الحمد لله القائل: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(سورة ق:18)، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه القائل حين سُئل عن طريق النجاة فقال: ((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك))1، صلى الله عليه وسلم، ما من خير إلا ودلَّ أمته عليه، وما من شرٍّ إلا وحذرها منه، علم صلى الله عليه وسلم أن اللسان خطره عظيم، وفعله جسيم، يورد صاحبه المهالك، ويَكُبُّ صاحبه في نار جهنم؛ فربَّى أصحابه على ذلك حتى كان ابن مسعود رضي الله عنه: "يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان"2، وعن سعيد الجريري عن رجل قال: "رأيت ابن عباس رضي الله تعالى عنه أخذ بثمرة لسانه، وهو يقول: ويحك قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم، فقال له رجل: يا ابن عباس ما لي أراك آخذاً بثمرة لسانك تقول كذا، قال: إنه بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنق منه على لسانه"3.

وفي اللسان آفتان عظيمتان:

* آفة الكلام بالباطل.

* وآفة السكوت عن قول الحق.

فإلى متى ونحن نجهل أو نتجاهل، ونغفل أو نتغافل عن خطورة هذا اللسان؟

مهما كان صلاحك، ومهما كانت عبادتك، ومهما كان خيرك، ومهما كان علمك، ومهما كانت نيتك، ومهما كان قصدك لا بد أن تحاسب على ما أطلقه لسانك من ألفاظ وكلمات، ورحم الله ابن القيم رحمة واسعة يوم أن قال: "من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والسرقة، وشرب الخمر، والنظر المحرم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يُشار إليه بالدين، والزهد، والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً، يزل بالكلمة الواحدة أبعد مما بين المشرق والمغرب – والعياذ بالله -"4، وقال أيضاً: "إن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال؛ فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله تعالى، وما اتصل به"5.

وقال الإمام النووي رحمه الله: "اعلم أنه لكلّ مكلّف أن يحفظَ لسانَه عن جميع الكلام إلا كلاماً تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلامُ وتركُه في المصلحة فالسنّة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلُها شيء"6.

ولما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه، ودلَّه على أبواب الخير كلها بكلمات هي من جوامع الكلم؛ قال له: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟)) قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه فقال: ((كفَّ عليك هذا))، فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، فقال: ((ثكلتك أمك يا معاذ وهل يُكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟))7

 

احفظ لسانك أيها الإنسـان       لا يلدغنـك إنـه ثعــبان

كم في المقابر من قتيل لسانه         قد كان هاب لقاءه الشجعان

وإنما كان اللسان بهذه المنزلة من الخطر لأن به يكون الشرك بالله، والكفر به، وبه يكون الكذب، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، وبه يكون القول على الله بغير علم، ومعظم هذه من الموبقات.

وإن أكثر ما يقع بين الناسـ ويشتهر في أوساط المجتمعات "مسألة الغيبة" التي حرمها الله تعالى بقوله: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}(الحجرات:12)، وأطنب العلماء في تعريف الغيبة من ذلك ما قاله الإمام الغزالي رحمه الله في حدِّ الغيبة: "أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه"8،  "والغيبة لا تختص باللسان فحيثُ ما أفهمتَ الغير ما يكرهه المغتاب ولو بالتعريض، أو الفعل، أو الإشارة، أو الغمز، أو اللمز، أو الكتابة، أو سائر ما يتوصل به إلى المقصود كأن يمشي مشيه؛ فهو غيبة، بل هو أعظم من الغيبة لأنه أعظم وأبلغ في التصوير والتفهيم"9، ومما يدل على ذلك ما رواه أبو حذيفة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: حسبك من صفية كذا وكذا – تعني قصيرة -، فقال: ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته))، قالت: وحكيت له إنساناً، فقال: ((ما أحبُ أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا))"10، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)) رواه البخاري برقم (6113)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((لمّا عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم))11.

فيا أيها المسلمون: احذروا عثرات اللسان، ولا تطلقوا له العنان؛ فإن اللسان يوقع في الموبقات والدركات، ويورث الحسرات والآفات جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء تكفر – تتذلل وتتواضع له – اللسان، تقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا))12.

ومن يتأمل كل هذه النصوص يتبين له أن السكوت عن الكلام إلا في خير هو سبيل النجاة والسعادة، وأن سلوك طريق الصمت إلا فيما يلزم فيه السلامة، والكلمة إن لم يتكلم الإنسان بها فهو مَلِكُهَا، فإن نطق وتكلم بها خرجت عن ملكه وسلطانه، وأصبح هو في مِلكِهَا، فليستعد لما يكون بعدها.

اللهم اجعل في قلوبنا نوراً، وفي ألسنتنا نوراً، وفي أسماعنا نوراً، وفي أبصارنا نوراً؛ برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وألسنتنا من الكذب والفحش يا رب العالمين، اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه الترمذي برقم (2406)، وقال الألباني: صحيح لغيره، انظر صحيح الترغيب والترهيب برقم (2741)(3/27) لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف – الرياض، ط. الخامسة.

2 حلية الأولياء (1/134).

3 حلية الأولياء (1/328).

4 الجواب الكافي لابن القيم (1/111).

5 الجواب الكافي لابن القيم (1/113).

6 الأذكار للإمام النووي (1/418).

7 سنن الترمذي برقم (2616)، وابن ماجة برقم (3973)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5136).

8 إحياء علوم الدين (3/143)، لمحمد بن محمد الغزالي أبو حامد، دار االمعرفة – بيروت.

9 آفات اللسان في ضوء الكتاب والسنة (ص11) للشيخ سعيد بن علي القحطاني، ط. التاسعة (محرم 1431هـ)، مكتبة الرشد.

10 سنن أبي داود برقم (4877)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2834).

11 سنن أبي داود برقم (4880)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (4878).

12 سنن الترمذي برقم (2407)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (351).