يوم لا ينفع مال ولا بنون
الحمد لله رب العالمين، خلق الخلق فأحصاهم عدداً، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام، ورضوان الله عليهم أجمعين، أما بعد:
فلا شك أن هذه الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء، يُبتلى فيها الإنسان بالخير والشر كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(الأنبياء:35)، وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(الملك:2)، وهذه هي حقيقة الدنيا.
والغرض من وجود الإنسان في هذه الأرض هو أن يعبد الله تعالى وحده لا شريك له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات:56)، ثم يكون المصير المحتوم لكل مخلوق في هذا الكون – إلا من شاء الله – مهما طال عمره {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}(آل عمران:185).
وما دام أن الموت هو المصير؛ فماذا بعد الموت؟
إن الإنسان إذا مات أُدخل القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة، فإن قدَّم لنفسه خيراً، وعمل الصالحات، وأتى الله بقلب سليم؛ فهو مفلح فائز برضوان الله تبارك وتعالى، أما إن اعتمد على ما جناه من الأموال، أو ما توالد له من الذرية؛ أو غير ذلك؛ فلن يلقى إلا السوء والبوار قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفي إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}(سبأ:37).
والقبر بحسب ذلك إما أن يكون روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وهو بيت الدود والوحشة، ثم بعد القبر يحشر الناس إلى أرض المحشر: منهم الركبان، ومنهم المشاة، ومنهم من يمشي على وجهه والعياذ بالله؛ صح ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين راهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، ويحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا)) رواه البخاري برقم (6522)؛ ومسلم برقم (2861)، قال تعالى: {وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}(الإسراء:97)، وقال: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً}(الفرقان:34).
ثم إن ليوم القيامة أهوال وأحوال يشيب من هولها الولدان، ويتمنى الكافر أن لو كان تراباً، تنشق السماء وتكون كالمهل، وتنسف الجبال نسفاً فتكون هباءً منثوراً قال الله: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}(المعارج:8-9)، وقال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}(طه:105-107)، وتدنو الشمس من رؤوس الخلائق قدر ميل فيعرقون على قدر أعمالهم، فمنهم من يكون العرق إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ليس هناك من ليل ولا نهار، ولا قمر ولا شمس، قد كورت الشمس، وانكدرت النجوم {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً}(طه:108)، و{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً}(طه:111).
يومئذ تنصب الموازين لوزن الأعمال: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف:8)، وقال الله: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}(المؤمنون:102-103)، ولا ينفع الإنسان في ذلك المقام إلا ما قدَّم من الأعمال، وقلب سليم يأتي ربه به قال الله: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(الشعراء:88-89)، وفي ذلك اليوم يجد كل إنسان ما عمل في صحيفته {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ}(آل عمران:30)، يومها يبعثر ما في القبور، ويحصَّل ما في الصدور {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ* وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}(العاديات:9-10)، وقال: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً}(النساء:42)، وقال: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}(الفرقان:27).
يومئذ تحق الحاقة، وتطم الطامة، وتقرع القارعة، وتزلزل الزلزلة، وتأتي الصاخة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}(عبس:34-37).
وإنما ذكرنا ما ذكرناه ليتنبه المسلم لذلك فيُصلح ما بينه وبين الله تبارك وتعالى، ويأتي يوم القيامة بقلب سليم؛ ليكون من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، نسأل الله أن يرحمنا ويلطف بنا.
أقوال العلماء في القلب السليم:
قال ابن زيد في قوله: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(الشعراء:89): "سليم من الشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد"1؛ وقال مجاهد في الآية: "ليس فيه شك في الحق"2، وقال ابن عباس: "حيي يشهد أن لا إله إلا الله؛ وقال مجاهد، والحسن، وغيرهما: يعني: من الشرك؛ وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم: هو القلب الصحيح، وهو قلب المؤمن؛ لأن قلب الكافر والمنافق مريض قال الله: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}(البقرة:10)، وقال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب الخالي من البدعة، المطمئن إلى السنة"3.
وقال القرطبي رحمه الله: "خُص القلب بالذكر لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح، وإذا فسد فسدت سائر الجوارح"4؛ وقيل: "إنه سليم من الشرور كلها، ومن أسبابها، ملآن من الخير والبر والكرم، سليم من الشبهات القادحة في العلم واليقين، ومن الشهوات الحائلة بين العبد وبين كماله، سليم من الكبر، ومن الرياء، والشقاق والنفاق، وسوء الأخلاق، وسليم من الغل والحقد، ملآن بالتوحيد والإيمان، والتواضع للحق وللخلق، والنصيحة للمسلمين، والرغبة في عبودية الله، وفي نفع عباد الله"5، وقال ابن القيم رحمه الله: "والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل، والحقد والحسد، والشح والكبر، وحب الدنيا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله، فهذا القلب السليم في جنَّة معجلة في الدنيا، وفي جنَّة في البرزخ، وفي جنَّة يوم المعاد، ولا يتم له سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء:
من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد، والإخلاص يعمُّ، وهذه الخمسة حُجُبٌ عن الله، وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة تتضمن أفراد الأشخاص لا تحصر، ولذلك اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم"6.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يصلح قلوبنا وأحوالنا، وأن يبيض وجوهنا يوم نلقاه، ونسأله رضاه والجنة، ونعوذ به من سخطه والنار، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
1 جامع البيان في تأويل القرآن (19/366) للإمام محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، تحقق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1 (1420هـ-2000م).
2 تفسير الطبري (19/366).
3 انظر: تفسير القرآن العظيم (6/149) للإمام الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تحقق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2 (1420هـ-1999م).
4 الجامع لأحكام القرآن (13/114) للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار الشعب – القاهرة.
5 تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام (1/378) للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ط1، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد – المملكة العربية السعودية (1422هـ).
6 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (1/84) للإمام محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، دار الكتب العلمية – بيروت.