كيف نتعامل مع الفوضى في المسجد

كيف نتعامل مع الفوضى في المسجد

كم تشتاق القلوب إلى بيوت الله ​​​​​​​ ، وكم تهفو إلى أجوائها الإيمانية، ونفحاتها الربانية، ونسائمها القرآنية، تشتاق إلى أحب البقاع إلى الله تعالى، إلى السكينة والخشوع، إلى القرب من الله جل في علاه، إنها تفر من شواغل الدنيا التي لا تنتهي، وحوائجها التي لا تنقضي، وطلباتها التي لا تنحصر

 نروح ونغدو لحــاجتنا وحاجات من عاش لا تنقضي
 تموت مع المرء حاجـاته وتبــقى له حاجة ما بقي
أشاب الصغير وأفنى الكبير كَـرُّ الغداةِ ومرُّ العشي

إنها تفر من ضجيج الحياة، وفوضى الدنيا، وإزعاج الأسواق؛ تفر إلى عبادة الله الواحد القهار إلى سكينة النفوس، وحياة القلوب، وصلاح الأرواح، وصفاء المشاعر، واستقرار العقل، واستكمال الإيمان.

ولعلنا بعد مشقة أعمال، ونصب احتياجات، وتعب ذهاب وإياب، وإرهاق مشاغل ومطالب؛ نأتي إلى المسجد فلا نجد إلا ما كنا فيه من الفوضى والإزعاج، لا نجد ما كنا نحلم به، وهذا حال بعض المساجد – ولا حول ولا قوة إلا بالله -، فإن من المشاكل الأساسية التي ابتُلِيَت بها بعض المساجد مشكلة الفوضى، نعم الفوضى، مع أن المساجد حقها التعظيم، والتشريف؛ لأنها مكان يُعبَدُ فيها العظيم، يُسجَدُ له ويُركَع، ويذكر فيها اسمه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (النور:36).

المساجد التي يُعَدُّ تعظيمها تعظيماً لشعائر الله سبحانه: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحج:32)، ومشكلة الفوضى في المسجد لا بد أن تعطيها إدارة المسجد حقها من الدراسة والتحليل، والكشف عن أسبابها، وذكر علاجها، وكيفية التعامل معها.

كل ذلك مما لابد أن تهتم به إدارة المسجد، ولأجل ذلك كانت فكرة إقامة توعية بعنوان: (كيف نتعامل مع الفوضى في المسجد)، ويكون ذلك كمهارة من المهارات التي تزود بها إدارة المسجد منسوبيها، أو أهل المسجد من سكان الحي.

فالفوضى في المساجد قد تصدر من الرجل الكبير في السن، أو من الطفل الصغير، أو من الشاب البالغ، أو من غيرهم، لذا فإنه لا بد من فقه التعامل مع كل واحد من هؤلاء كل بحسبه، وقد تكون هذه الفوضى بسبب خطأ عند أحد المصلين، أو عند إمام المسجد، أو بسبب الاختلاف في المذاهب والآراء بين الأمام والمأموم، فتحتاج معالجتها إلى حكمة وعلم، وحسن بيان.

وقد تتجاوز الفوضى حدَّها فتبلغ حد الشتم والسباب داخل المسجد، أو إسالة الدماء، أو تصل إلى إزهاق أرواح؛ فكان لا بد من المبادرة إلى وضع حلول مناسبة لكل فوضى تقوم قائمتها في المسجد.

ولو تأملنا قليلاً في بعض مظاهر الفوضى الحاصلة في المسجد فسنجد أن منها:

  • رفع الصوت المفضي إلى التشويش على المشتغل بعبادة الله – تعالى – سواء كان الاشتغال بصلاة الفرض أو النافلة، أو قراءة القرآن، أو الدعاء أو غير ذلك، وقد أنكر عمر – رضي الله عنه وأرضاه – على من رفع صوته في المسجد كما روى البخاري عن السائب بن يزيد إذ قال: “كنت قائماً في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله ” رواه البخاري (450)، جاء في عمدة القاري: “وفيه جواز تأديب الإمام من يرفع صوته في المسجد باللغط، ونحو ذلك”1، يقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله -: “وهذا إنكار من عمر، لكن هل قوله في مسجد النبي يعني احترام المسجد نفسه، أو جميع المساجد؟ الظاهر أن جميع المساجد مثل المسجد النبوي؛ لأن هذا الاحترام احترام للمسجد من حيث هو مسجد”2.
  • ومن مظاهر الفوضى عبث الأطفال وإزعاجهم، وهو ما تشتكي منه الكثير من المساجد، أطفال لا يعلِّمهم آباؤهم آداب المساجد، يعيثون فيها فساداً، ويلعبون فيها، وقد يجعلون فيها شيئاً من النجاسات مما يستقذره الناس، ويأنفون أن يكون ذلك في بيوتهم – والله المستعان -، فينبغي ألا يصطحب الآباء الأطفال الغير مميزين؛ لصعوبة ضبطهم وترتيبهم، وقد سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله تعالى -: “يحضر بعض المصلين إلى المسجد ومعهم صبيانهم الذين لم يبلغوا سن التمييز، وهم لا يحسنون الصلاة، ويصفُّون مع المصلين في الصف، وبعضهم يعبث ويزعج من حوله؛ فما حكم ذلك؟ وما توجيهكم لأولياء أمور أولئك الصبيان؟ فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أن إحضار الصبيان الذين يشوشون على المصلين لا يجوز؛ لأن في ذلك أذية للمسلمين الذين يؤدون فريضة من فرائض الله … فنصيحتي لأولياء أمور هؤلاء الصبيان أن لا يحضروهم إلى المسجد، وأن يسترشدوا بما أرشد إليه النبي  حيث قال: مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر3، كما أنني أيضاً أوجه النصيحة لأهل المسجد بأن تتسع صدورهم للصبيان الذين يشرع مجيئهم إلى المسجد، وأن لا يشقوا عليهم، أو يقيموهم من أماكنهم التي سبقوا إليها، فإن من سبق إلى شيء فهو أحق به سواء كان صبياً أو بالغاً…”4.
  • التسول في المساجد، وكم نرى في ذلك من الفوضى والإزعاج، إذ أن السائل لا يكتفي بعرض حاجته ثم يسكت بل يصرخ بأعلى صوته، مع الحلف والأيمان المغلظة، وقد يدعو على نفسه، ويلطم خده… إلى غير ذلك من الأفعال التي يفعلها الكثير ممن يتسولون في المساجد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة، فإن كان به ضرورة، وسأل في المسجد، ولم يؤذ أحداً بتخطيه رقاب الناس، ولا غير تخطيه، ولم يكذب فيما يرويه، ويذكر من حاله، ولم يجهر جهراً يضر الناس مثل أن يسأل والخطيب يخطب، أو وهم يسمعون علماً يشغلهم به، ونحو ذلك؛ جاز والله أعلم”5، ويقول ابن عثيمين – رحمه الله -: “أما موضوع التسول فالواقع أن الناس يفسد بعضهم على بعض، فمن المتسولين من يتسول – والعياذ بالله – وهو في غنى، وهذا يصدق عليه قول الرسول  : لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم6، فإذا علمت أنه غني وجب عليك أن تطرده، وأن تبين للناس غناه حتى لا يغتروا به، وإذا غلب على ظنك أنه غني فلا تعطه، وانصحه، وإذا شككت في الأمر فكِلْ أمره إلى الله، ولا يلزمك أن تقابله بشيء، ولكن يبقى النظر أن من المتسولين من يقوم أمام الجماعة، ويتكلم بصوت مرتفع، ويشوش على الناس أذكارهم بعد الصلاة، وقد يستمر في الكلام حتى يشوش بكلامه على من أراد أن يتنفل، فمثل هذا يُمنع، ويُقال له: اخرج إلى باب المسجد من الخارج”7.
  • الفوضى في تغيير المنكر، أو تصحيح خطأ ما؛ فإن ذلك قد يحوِّل المسجد إلى مكان للمهاترات الكلامية، أو التطاول في السباب أو غير ذلك، فكم من خطأٍ قوبل بخطأٍ أعظم منه، وكم من منكر أُنكر بأنكر منه، والصحيح هو أن يقوم بهذه المهمة العظيمة أهل الدين والعقل والعلم، ولكل مسلم حق تغير المنكر بما يستطيع لكن لا يكن ذلك الأمر سبباً للفوضى في المسجد، وتقليل تعظيم بيوت الله تعالى.

هذه باختصار بعض مظاهر الفوضى، ويمكن أن تكون التوعية في هذا الباب على هيئة دورة تذكر فيها المظاهر، والأسباب، والعلاج، والله أعلم، وصل اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 عمدة القاري شرح صحيح البخاري (4/250) لبدر الدين محمود بن أحمد العيني، دار إحياء التراث العربي – بيروت.

2 شرح رياض الصالحين لمحمد بن صالح العثيمين، تحقيق: د. محمد محمد تامر، المكتبة الإسلامية بالقاهرة، ط. الأولى (1423هـ-2002م).

3 الحديث: مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين رواه أحمد (6717)، وجاء في تحقيق المسند: إسناده حسن، انظر مسند الإمام أحمد بن حنبل (11/369) لأحمد بن حنبل أبو عبدالله الشيباني، المحقق: شعيب الأرناؤوط وعادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبدالمحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط. الأولى (1421هـ-2001م).

4 مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (15/31).

5 الفتاوى الكبرى (2/87) لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، تحقيق: حسنين محمد مخلوف، دار المعرفة – بيروت، ط. الأولى (1386هـ).

6 الحديث: ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم رواه البخاري (1381) بلفظه، ومسلم (1725).

7 سلسلة لقاءات الباب المفتوح، وهي سلسلة لقاءات كان يعقدها فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين بمنزله كل خميس.