مساجد الضرار
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أمَّا بعدُ:
فإنَّ المساجد هي بيوت الله، وبنيت لأجل أن تُؤدَّى فيها عبادته، ويتقرَّب فيها العباد إلى رب الأرض والسماوات، ولم تبن لأجل الإضرار بالمسلمين، وإثارة العداوات، وإيجاد البغضاء في قلوبهم، ولا لخلخلة الصف والتفرقة بين المسلمين، فلها رسالة عظيمة سامية يغفل عنها كثير من المسلمين اليوم.
والمساجد التي تُبنى للإضرار حكمها أن تحرق وتهدم إذا كان أصل المسجد بُني لهذا، أما إذا بُني المسجد قربة للـه – تعالى – ثم عرض له عارض كغلبة أهل البدع عليه، أو تحويله إلى معبد من معابد الوثنية، أو تعيين إمام لا يجوز الصلاة خلفه؛ فهذا لا يجوز هدمه بل يجب – إن قدر عليه – أن يزال هذا الفساد، والمسجد على أصل بنائه من الإقرار، ومدح بنائه، وبانيه.
قال الشيخ جمال الدين القاسمي وهو يتكلم عن قول الله تعالى: والذين اتخذوا مسجداً ضراراً: “دلت الآية على أن كل مسجد بُني على ما بُني عليه مسجد الضرار أنه لا حرمة، ولا يصح الوقف عليه، وقد حرق الراضي باللـه كثيراً من مساجد الباطنية، والمشبهة، والمجبرة، وسبَّل بعضها، نقله بعض المفسرين”1.
ومن مساجد الضرار بناء مساجد قرب مسجد قديم إذا كان المقصود منها الإضرار بالمسلمين، وتفريق جماعتهم، وخلق العداوات فيما بينهم، وجعلهم متناحرين، ومتباغضين، فهذه المساجد تُهدم، وليس في ذلك أي حرج، لأن النبي ﷺ قد هدم مسجد الضرار الذي بناه المنافقون، قال ابن رشد الجد (ت255هـ): “إن من بنى مسجداً بقرب مسجد آخر ليضار به أهل المسجد الأول، ويفرق به جماعتهم؛ فهو من أعظم الضرر، لأن الإضرار فيما يتعلق بالدين أشد منه فيما يتعلق بالنفس والمال، لاسيما في المسجد المتخذ للصلاة التي هي عماد الدين، وقد أنزل اللـه – تعالى – في ذلك ما أنزل من قوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا – إلى قوله – لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ فإن ثبت على بانيه أنه قصد الإضرار، وتفريق الجماعة، لا وجهاً من وجوه البر؛ وجب أن يُحرق ويُهدَّم، ويُترك مطروحاً للزبول كما فعل رسول اللـه ﷺ بمسجد الضرار”2.
وقال السيوطي: “ومن تلك المحدثات كثرة المساجد في المحلة الواحدة، وذلك لما فيه من تفريق الجمع، وتشتيت شمل المصلين، وحل عروة الانضمام في العبادة، وذهاب رونق وفرة المتعبدين، وتعديد الكلمة، واختلاف المشارب، ومضارة حكمة مشروعية الجماعات – أعني اتحاد الأصوات على أداء العبادات -، وعودهم على بعضهم بالمنافع، والمعونات، والمضارة بالمسجد القديم أو شبه المضارة، أو محبته الشهرة والسمعة وصرف الأموال فيما لا ضرورة فيه”3.
وقال البهوتي: “ويحرم أن يُبنى مسجد إلى جنب مسجد إلا لحاجة؛ كضيق الأول ونحوه كخوف فتنة باجتماعهم في مسجد واحد، وظاهره (أي المذهب) وإن لم يقصد المضارة”4.
وقال ابن تيمية: “كان السلف يكرهون الصلاة فيما يشبه مسجد الضرار، ويرون العتيق أفضل من الجديد؛ لأن العتيق أبعد عن أن يكون بُني ضراراً من الجديد الذي يُخاف ذلك فيه”5.
وذكر العلماء أنه لا يجوز أن يُبنى مسجد جنب مسجد، وإنما يُوسَّع المسجد الأول، إلا إذا كانت هناك حاجة كأن لا يستطيعون توسعة المسجد الأول لضيق مكانه، فيُبنى المسجد عند الحاجة، قال الإمام القرطبي: “قال علماؤنا: لا يجوز أن يُبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه، والمنع من بنائه؛ لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد، فيُبنى حينئذ، وكذا قالوا: لا ينبغي أن يُبنى في المصر الواحد جامعان، وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه، وقد أحرق النبي ﷺ مسجد الضرار وهدمه”، وقال: “قال علماؤنا: وكل مسجد بُني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه”6.
ومن مساجد الضرار المساجد التي تُبنى على المقابر، فإن فيها ضرراً كبيراً على المسلمين، لأنها تمس جانب التوحيد، فهذه المساجد تُهدم، ولا يجوز أن تبقى، ولا يجوز الصلاة فيها، قال النووي – رحمه الله – وقد سئل عن مقبرة مسبَّلة للمسلمين بنى فيها إنسانٌ (مسجداً)، وجعل فيها محراباً هل يجوز ذلك؟ وهل يجب هدمه؟ فقال: “لا يجوز له ذلك، ويجب هدمه”، وقال ابن القيم – رحمه الله -: “يُهدم المسجد إذا بُني على قبر، كما يُنبش الميت إذا دُفن في المسجد، نصَّ على ذلك أحمدُ وغيره، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجدٌ وقبرٌ، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه، وكان الحكم للسابق، فلو وضعا معاً لم يجز”7.
اللهم أعنا على طاعتك، وجنبنا معاصيك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.