الحياة الطيبة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
عباد الله:
إن هذه الخطبة رسالة….، نعم رسالة
لأولئك الذين تنكرت لهم نفوسهم التي بين أضلاعهم، وعاشوا في حيرة وقلق، واضطراب وأرق استوطن جنباتهم.
لأولئك الذين ضاقوا ذرعاً بالحياة، وخيمت على سمائهم غيوم الغم والكرب، وتمنوا لو غيبتهم الأرض في جوفها.
لأولئك الذين تربع الضنك على أكبادهم، وعشش الضيق في أعماقهم، وخالج الشقاء قلوبهم.
لأولئك الذين ملُّوا الحياة، وفقدوا لذيذ الرقاد، وطيب العيش على وفرته بينهم.
فهم في تعاسة وكمد، وحياتهم عناء ونكد.
إنها رسالة
للباحثين عن الحياة الطيبة، عن العيش الهنيء.
للاهثين وراء السعادة والسكينة، للذين يرجون انشراح صدروهم، وهدأة نفوسهم، وراحة بالهم.
وكلنا ذاك الإنسان، وإن اختلفت مذاهبنا، وتباينت أعراقنا، وتشتت مشاربنا ومقاصدنا، الكل يكدح في هذه الحياة، ويضني نفسه، ويجهد حاله طمعاً في الحصول عليها، وأملاً في الوصول إليها، فلو سألته: لم تعمل هذا؟ ولأي شيء تفعل ذاك؟ لقال: أريد السعادة، أريد الراحة، سواء قالها بحروفها أم بمعناها، بمدلولها أم بحقيقتها.
فيا عبد الله: إذا كنت تبحث عن السعادة، وتسعى للظفر بها؛ فارعني سمعك، وحلِّق معي بفكرك، ودع المشاغل من حولك، ولا تطاوع غمض عينك، ودعنا ننطلق إلى فضاء آخر هناك حيث نلتقي فيه ببلسم الحياة الطيبة، ونعيش السعادة الحقيقة.
لكن قبل أن ننطلق أريد أن أبيِّن لك ما الذي نقصده بالحياة الطيبة، وبالسعادة الحقيقة حتى لا تخلتط علينا المفاهيم، وتتلاعب المعايير:
إنها بعبارة موجزة: ذلك الشعور المستمر بغبطة، وطمأنينة، وأريحية، وبهجة تغمر القلب، وتسكن النفس، وتسمو بالروح، وتسعد الحال، ولو كان العبد في قلَّة من ذات اليد، أو محروماً من ترف الحياة ورغد العيش، تأتي نتيجة للإحساس الدائم بخيرية الذات، وخيرية الحياة، وخيرية المصير.
فانتبه إذن فنحن لا نعني بها السعادة الوهمية، أو الراحة الآنية التي تمرُّ عليك كطيف الخيال، أو تصاحبك ساعة من الزمن ثم لا رجعة، أو تداعبك قليلاً من الوقت ثم تفارقك؛ ليجثو بعدها على صدرك لهيب الضيق والضنك، وتكتوي بنار القلق والأرق، فتفهم رعاك الله.
أيها المسلم: اسمح لي أن أُطرق سمعك هذا السؤال: كيف تظن أنت السبيل إلى الحياة الطيبة والسعادة الحقيقية؟
هل تظنها في تكديس المال من حلال أو حرام ولو كان بالغش، والأيمان الكاذبة، والحيل المحرمة؟ أم تتخيلها في جمع الثروات، وملك العقارات؟ أم تظنها في العيش بين القصور، وفاخر الدور، وامتلاك السيارات الفارهة، والالتصاق بالمرأة الحسناء الجميلة البارعة؟
أم تزعمها في الشهرة الصاخبة، وأبَّهة الملك والزعامة، والجاه والسلطان؟
أم تتصورها في نيل المناصب، ومنح الرتب، والظفر بالشهادات العالية من ماجستير ودكتوراه في المجالات الراقية؟
أم تتوقعها في حصول النفس على شهواتها وملذاتها، والانفتاح على رغباتها بلا قيد ولا ضابط؟
أم في الليالي الحمراء، والسهرات الماجنة، والسكر والعربدة، ومشاهدة الفضائيات الفاضحة، ومتابعة المجلات الخليعة؟
أمة الإسلام: إن الحقيقة المرَّة التي نراها هي أن كثيراً من الناس يعيشون هذا في واقعهم؛ يبحثون عن الحياة الطيبة في غير مضآنها، ويطلبونها وقد ضلوا طريقها، ولذا تجد بعضهم من جهله وغفلته إذا ذُكر عنده أحد الأثرياء والأغنياء قال: ذاك مرتاح؛ وإن سألته عن السبب قال لك: لأنه يملك الأراضي، وله أرصدة في البنك وعنده وعنده.
فيا من تظن هذا، يا مخدوعاً بالوهم، يا غارقاً في الحلم، والله لو فتشت عن بعض هؤلاء – وبخاصة ممن تنكبوا طريق الهداية، وسلكوا دروب الغواية – لوجدتهم يشكون من مرارة حظهم، وسوء حالهم، وتنكد عيشهم، وبعض هولاء يصطلون بنار المشاكل فتأكل ما تحتهم وما فوقهم، وبعض هؤلاء يبتليهم الله – عز وجل – بالأمراض والأسقام فيقضي بقية حياته وهو من مستشفى إلى مستشفى، ومن بلد إلى بلد.
يقول: أحد عمال البناء في إحدى الدول العربية: كنت جالساً أتناول غدائي الذي كان عبارة عن كسرة خبز، وعلبة تونة، فجاءني رجل يبدو عليه مظاهر الغنى من أول وهلة، فلما رأيته، قال لي: أتعرف فلاناً، وذكر رجلاً هو أشهر ثري في البلدة، فقلت له: أسمع عنه، فقال لي: أنا هو، ثم قال: ما رأيك أن أعطيك نصف ملكي مقابل أن تعطيني شهوة الأكل لأشاركك طعامك، يقول: فسألته لماذا؟ قال: فقال لي كلمات هزت مشاعري، وحمدت الله كثيراً على ما أنا فيه، قال: صحيح أني ثري، وأملك الكثير، وما أريده يأتني، ولكني محروم من كل شيء، كل ما أتناوله من الأكل في هذه الدنيا كسرة خبر، وشربة ماء ليس غير، لا أستطيع أن آكل غيره بسبب مرض خبيث ألـمَّ بي حرمت بسببه كل شيء.
واسمع أيضاً إلى هؤلاء الذين عرفت الشهرة والترف والمناصب طريقها إليهم، لكن لم تعرف الحياة الطيبة سبيلاً تجاههم، بل شقوا بما ملكوه، وصُبَّ على قلوبهم سيل التعاسة، وأرجو أن تعي الدرس جيداً فإن في قصصهم {عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى}(يوسف:111)، واللبيب بغيره يتعظ.
إليكم قصة كرستينا أوناسيس، هذه القصة العجيبة التي تؤكد أن المال مهما زاد وكثر لا يمكن أن يكون وحده سبباً للسعادة والراحة، وبما أن الله – سبحانه وتعالى – قد ضرب لنا الأمثلة من الكفار – فلا غرو ولا عجب -، بل إن ذلك من ضمن المنهج الإلهي القرآني أن نضرب لكم مثلاً حتى باسم هذه المرأة.
إن هذه المرأة "كرستينا أوناسيس" فتاة يونانية، ابنة المليونير المشهور "أوناسيس" ذلك الذي يملك المليارات والجزر والأساطيل.
هذه الفتاة مات أبوها، وقبله ماتت أمها، ثم مات أخوها، وبقيت هي الوريثة الوحيدة مع زوجة أبيها لهذه الثروات الطائلة.
أتدري – أيها الحصيف – كم ورثت؟
لقد ورثت من أبيها ما يزيد على خمسة آلاف مليون ريال سعودي!
تملك أسطولاً بحرياً ضخماً، تملك جزراً كاملةً، تملك شركات طيران عملاقة.
لو وزعت ثرواتها على مئة فرد لأصبحوا من كبار الأثرياء، ولبلغ رصيد كل واحد منهم خمسون مليون.
أخي الكريم: بالله عليك امرأة تملك هذه الثروة الضخمة؛ أليست في مقاييس كثير من الناس أسعد امرأة في العالم؟
أليست في نظر الكثير أنها فتاة مرتاحة ومترفهة؟
قد يكون الجواب نعم هي كذلك، وكم وكم من إنسان يتمنى أن يكون في مثل ثرائها، وغناها الفاحش.
ولكن دعونا نعود إليها لنسألها هذا السؤال: هي هل امرأة سعيدة، هل ذاقت طعم الحياة الطيبة؟
أحبابي الكرام: إليكم فصول قصتها العجيبة، وسيتبين لكم من خلالها الجواب:
أما أمها: فقد ماتت بعد حياة مأساوية كان آخر فصولها الطلاق.
وأما أخوها: فقد هلك بعدما سقطت به طائرته التي كان يلعب بها.
وأما أبوها: فقد اختلف مع زوجته الجديدة التي هي "جاكلين كندي" – زوجة الرئيس الأمريكي السابق "كندي" -؛ تلك الزوجة التي تزوجها بملايين الدولارات يبحث عن الشهرة فقط؛ ليقال: إنه تزوج بزوجة الرئيس الأمريكي "جون كندي"، ومع ذلك فقد عاش معها في شقاء دائم.
تصور أن من بنود عقد الزواج: ألا تنام معه في فراش، وألا يسيطر عليها، وأن ينفق عليها الملايين حسب رغبتها.
ومع ذلك فقد اختلفت معه، وعندما مات اختلفت مع ابنته.
دعونا نعود إلى كرستينا الباحثة عن السعادة والحياة الهانئة، إن هذه الفتاة كانت قد تزوجت في حياة أبيها برجل أمريكي، وعاش معها شهوراً ثم طلقها أو طلقته.
وبعد وفاة أبيها تزوجت برجل آخر يوناني، وعاش معها شهوراًَ ثم طلقها أو طلقته.
ثم انتظرت طويلاً تبحث عن الحياة الطيبة، أتعلمون من تزوجت؟
للمرة الثالثة "أغنى امرأة في العالم على الإطلاق" أتعلمون من تزوجت؟ لقد تزوجت شيوعياًَ روسياً يا للعجب، الرأسمالية تلتقي مع الشيوعية!
وعندما سألها الناس والصحفيون – بشكل خاص -: أنت تمثلين الرأسمالية فكيف تتزوجين بشيوعي؟
عندها قالت: أبحث عن السعادة، نعم، لقد قالت: أبحث عن السعادة.
وبعد الزواج ذهبت معه إلى روسيا، وبما أن النظام هناك لا يسمح بامتلاك أكثر من غرفتين، ولا يسمح بخادمة؛ فقد جلست تخدم في بيتها – بل في غرفتيها -، فجاءها الصحفيون وهم يتابعونها في كل مكان فسألوها: كيف يكون هذا؟
قالت: أبحث عن السعادة.
وعاشت معه سنة ثم طلقها بل طلقته.
ثم بعد ذلك أقيمت حفلة في فرنسا، وسألها الصحفيون: هل أنت أغنى امرأة؟ قالت: نعم أنا أغنى امرأة، ولكني أشقى امرأة!
وآخر فصل من فصول المسرحية الحقيقية لهذه الفتاة أنها تزوجت برجل فرنسي غني (أحد رجال الصناعة)، وبعد فترة يسيرة أنجبت بنتاً، ثم طلقها بل طلقته.
ثم عاشت بقية حياتها في تعاسة وهم وعناء، ليكون آخر المطاف بها أن يجدها رجال البوليس ميتة في شالية في الأرجنتين، لا يعلمون هل ماتت ميتة طبيعية، أم قتلت، ثم دفنت في جزيرة أبيها!
فيا عبد الله: انظر إلى هذه المرأة هل أغنى عنها مالها؟ هل أكسبها السعادة؟ هل قرَّت عينيها به؟ هل تنعمت بثرواتها؟
أما في الدنيا: فلا، وأما في الآخرة فستقول لأنها كافرة {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ}.
إذن النتيجة والخلاصة أن المال وحده لا يكفي لجلب السعادة، ولا يوفرها، ومن أكـبر أوهام السعادة قضية الثراء والتجارة، يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقى هو السعيد
وإليك نموذج آخر لأناس تربعوا على كرسي الشهرة والفن، وذاع صيتهم على كثير من الألسنة، وراءهم البعض وشاهدهم على شاشات التلفزة والقنوات الفاضحة؛ لكنهم عاشوا أسوأ حياة يعيشها البشر.
فشل أسري، مخدرات، انحلال، انعدام حياء، موت فضيلة.
إنهم أهل الفن من غناء وطرب، وتمثيل وصخب.
وها هي مذكراتهم التي تعج بها الصحف، وأخبارهم التي تناقلتها المجلات؛ خذوا على ما أقول ثلاث وقائع:
الواقعة الأولى:
"أنور وجدي" زوج الممثلة اليهودية ليلى مراد، هذه الزوجة التي قالت عنه في مذكراتها: "إن زوجي كان ممثلاً بسيطاً، فقال: أتمنى أن أملك مليون جنيه حتى ولو أصبت بمرض، فقلت له: ما ينفعك المال إذا جاءك المرض؟ فقال: أنفق جزءاً من المال في علاج المرض، وأعيش في بقيته سعيداً، فملك أكثر من مليون جنيه، وابتلاه الله بسرطان الكبد، فأنفق المليون جنيه وزيادة، ولم يجد السعادة، حتى إنه كان لا يأكل إلا شيئاً يسيراً من الطعام، فهو ممنوع من أكل كثير من الأطعمة، وأخيراً مات بهذا المرض العضال حسيراً نادماً، فلا مال، ولا هناء، ولا راحة.
الواقعة الثانية:
"نيازي مصطفى" وهو من كبار المخرجين، بلغ السبعين من عمره؛ لكنه عاش حياته في شقاء وتعاسة، أقام في إحدى الليالي حفلة صاخبة شاركه فيها أكثر من عشر فتيات، وفي الصباح وجدوه "أثراً بعد عين".
نعم، وجدوه قتيلاً في منزله.
انظر إلى هذه الحياة: ذعر، وسكر، وخيانة، ورذيلة، وفواحش، والنهاية موت على هذه الحالة المأساوية، نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
الواقعة الثالثة:
"عبد الحليم حافظ" المغني الشهير كما يسميه بعضهم ملك الغناء العربي، ومدرسة الحب الغنائية، والعندليب الأسمر.
هذا الرجل عاش حياته مريضاً يتجرع كؤوس الموت مرات ومرات، وقف على رأسه عشرات الأطباء يحاولون أن ينتزعوا منه هذه الأمراض التي سكنت أعماقه؛ لكن هيهات وما عساه يغني حذر من قدر.
عاش وحيداً من غير زوجة ولا ولد رغم أنه قارب في عمره الخمسين عاماً، يقول عن نفسه: أنا ابن القدر، وقدري أسود، وفعلاً كانت حياته حافلة بالتعاسة والكآبة، والشقاء والنكد، لم يغنِ صوته، ولا شهرته، ولا عفنه عنه شيئاً، بل شقي بما عاشه، وبعد أن أنهكه المرض؛ ودَّع الحياة، ولا ندري إلى أي حياة.
فتأمل إذن هل أغنت عنهم شهرتهم شيئاً، هل أراحت ضمائرهم، هل أزاحت القتام عن قلوبهم؟ لا والله.
أتدري لماذا؟ لأنها شهرة انفصمت عراها عن تقوى الله – سبحانه وتعالى -، شهرة ارتبطت بغير سبب أصيل وحبل وثيق.
شهرة لم تكن أكثر من بريق زائف تشع به أعينهم لتوهم الآخرين بأنهم سعداء، وفي الواقع هم تعساء بؤساء.
بل السعيد هو الذي يتقي الله سبحانه وتعالى؛ لا يريد الشهرة، ولا يسعى وراء بريقها، وصدق الله {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(سورة طه:124).
فيا باحثاً عن الحياة الطيبة:
في الأسفار والمنتزهات والشاليهات التي يجاهر فيها بمعصية الله، وما يغضب الجبار؛ ما عرفت الطريق.
ويا طالباً لها بين الغانيات والمومسات، وأمام الراقصات؛ فتحت على قلبك باب الكدر والضيق.
يا غارقاً في أوحال الرذيلة، ومستنقع الشهوة، واللهث وراء الحرام، ترجو السعادة؛ تأكد أنك أخطأت الطريق.
يا راجياً لنيلها في السكر والمخدرات، والشراب اللعين؛ أفق فوالله ما زدت حياتك إلا شقاء، وعرضت نفسك للحريق.
أحبابي الكرام:
ومن أوضح الأمثلة على أن السعادة ليست في الغنى، ولا الترف، ولا ملك العقارات، ولا في اللهث وراء الشهوات والنزوات؛ هو ما تعيشه أوروبا قاطبة – وبخاصة الدول الإسكندنافية – فهي أغنى الدول، وأكثرها انفتاحاً، ومع ذلك فهي تمثل أعلى نسب الانتحار.
فدولة السويد مثلاً هي أغنى دولة من حيث دخل الفرد؛ لكنها أعلى دولة في نسب الانتحار.
بينما نجد الدول الإسلامية – مع أن أكثرها فقيرة – تسجل أقل نسبة من نسب الانتحار في العالم.
وهكذا نرى من خلال الواقع أن السعادة الحقيقية ليست في المال، ولا في الشهرة، ولا في الشهادات، ولا في المناصب، ولا ما أشبه ذلك من حطام الدنيا.
وإلا لماذا ينتحر في أمريكا سنوياً أكثر من خمسة وعشرين ألف شخص؟
ألم يجدوا خموراً يشربونها؟ ألم يجدوا بلاداً يسافرون إليها؟ أمُنِعُوا من الزنا أم حيل بينهم وبين الملاعب والملاهي؟ أَأُقفلت في وجوههم الحانات والبارات؟
كلا بل هم يفعلون ما شاءوا، يتقلبون بين متع أعينهم وأبصارهم وفروجهم.
إذن لماذا ينتحرون؟ لماذا يملُّون من حياتهم؟ لماذا يتركون الخمور والزنا والملاهي ويختارون الموت، لماذا؟
الجواب واضح يا قوم تقرؤونه في قوله سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً}(طه:124).
ويبقى السؤال: إذن أين تكمن السعادة والحياة الطيبة، وكيف السبيل إلى الوصول إليها؟
هذا بإذن الله ما سنتطرق إليه في الخطبة الثانية، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أيها الأخ الكريم: الباحث عن الحياة الطيبة، سمعت بأذنيك، ووقفت بنفسك على أمثلة حقيقة، وقصص واقعية لنماذج من البشر عاشت أبَّهة الملك، وعظمة الجاه والسلطان، وفُتح لها باب الشهرة على مصراعيه، الأموال بين يديها، الدنيا رهن إشارتها، ما يشتهونه يصلهم، وما يطلبونه يحضرهم؛ لكن ماذا تغنى عنهم إذا كانت القلوب خاوية لم تُعمر بذكر الله ولا بشكره، ما عساها تنفعهم إذا قطعوا حبل الصلة بينهم وبين مليكهم جل جلاله يقول سبحانه: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}(الأنعام:125).
كانوا يمنُّون أنفسهم أن يحظوا بحياة طيبة، ودنيا هانئة، يمنُّونها بالاستقرار والرغد، والراحة والسعد؛ لكن هيهات هيهات فقد تقطعت بهم السبل، وحالت دونهم القيود، وتقلبوا في حياتهم بين مرارة العناء، وألم الحرمان، وعاش كثير منهم بقية عمره مكتوياً بنار المرض والأسقام.
لماذا؟
لأنهم طلبوا السعادة في غير مضانها، ظنوها في المال والشهرة، ولذات الدنيا العاجلة وحدها؛ فكانت هذه النتيجة.
ولولا خشية الإطالة لسردت لكم من ذلك الكثير والكثير من المواقف، لكن حسبنا ففي الإشارة ما يغني عن العبارة، واللبيب بالإشارة يفهم.
ودعني الآن أوقفك على ما تتحصل بها الحياة الطيبة، وانشراح الصدر، وسكون النفس، وقرَّة العين.
يدلك عليه مَن خَلَقَك وأوجدك، من سوَّاك ورزقك، وبالصحة أمدَّك وأكرمك، فافتح قلبك لتقرعه قوارع التنزيل، والنور المبين يقول سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(النحل:97)، فيا أيها الغافلون، أيها التائهون، أيها المشتتون:
ها هو ربكم يدلكم على الطريق والفسحة بعد المضيق، ها هو يسكب على قلوبكم برد اليقين، ويرشدكم سكون راحتكم بعد طول الضجر والأنين، ها هو ينقلكم إلى عالم الروحانية بعد انغماسكم في شهوات الدنيا الدنية، هي بين أيديكم، وفي متناول الجميع قد اختزنها واهبها في أمرين يقول سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}(النحل:97).
أوعيت يا عبد الله ما قاله ربك، إنه يجعل قوام هذه الحياة الطيبة في أمرين عظيمين جليلين:
أولهما: الإيمان به تبارك وتعالى، نعم فإن الحياة إذا خلت من الإيمان كانت صحراء وهجير لافح، ليس فيها ظل ولا ماء ولا مأوى.
إن الحياة إذا خلت من الإيمان تنغصت لذاتها، وتكدرت طيباتها، وساءت محاسنها.
ولذلك فإن الكافر والفاجر لا سعادة له ولا طمأنينة ولا سكينة كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}(طه:124-126).
والعجيب أن بعضهم يؤلف في السعادة ولم يعشها أو يذقها، ولعلكم تسمعون بديل كارينجي الأمريكي الذي ألَّف كتباً عدة كان أشهرها كتابه "دع القلق وابدأ الحياة"، وترجم إلى تسعٍ وخمسين لغة في العالم، وهو من أكثر الكتب انتشاراً، وفي آخر عمره أخذ سكيناً ونحر نفسه؛ ولا تسأل لماذا؟
فقد كان يستمد التنظير للسعادة من واقع البشر، وترك الصلة برب البشر، فكانت هذه هي النهاية.
لكن أهل الإيمان ما هو حالهم؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) رواه مسلم برقم (5318).
وانظروا إلى بلال رضي الله عنه وأرضاه يوم ذاق حلاوة الإيمان فكان يُسحَبُ على الصخور وهو يقول: "أحدٌ أحد.. أحدٌ أحد".
أحدٌ هتفت بها بصوتٍ صارخٍ تثني بقولتها لكل معطل
يُسحب على الرمال، ويُجر على وجهه وهو يقول: أحدٌ أحد؛ ولما سُئِلَ عن سبب صبره وجلده حين كان صناديد قريش يعذبونه قال: مَزَجْتُ حلاوة الإيمان بمرارة العذاب فغَلَبَتْ حلاوة الإيمان مرارة العذاب.
وهذا إبراهيم بن أدهم الزاهد العابد، يأخذ كسرة الخبز ثم يغمسها في نهر الأردن ويقول لأحد أصحابه: "يا أبا يوسف لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا بالسيوف أيام الحياة على ما نحن فيه من لذيذ العيش، وقلَّة التعب"1، فأيُّ عيش طيب يعني، وأيُّ سعادة يتحدث عنها وهو لا يملك إلا كسرة الخبز في يده، إنه عيش الإيمان، وسعادة الرضا بما قدَّره وكتبه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
يَذكُر مدير إحدى الشركات الأمريكية الكبيرة أنه تجمَّع له من الأموال، والجاه، والمكانة، والوظيفة الشيء الكثير، لكنه كان يشعر بشقاء مرير، يأوي إلى الفراش فيجلس ساعات يتقلب دون أن يصل النوم إلى عينيه، وقد لفت نظره شاب مسلم موظف عنده بوظيفة متوسطة، وبراتب متواضع؛ لكنه دائم الإشراق والبشر، والابتسام والضحك والسرور، يأكل بسرور، وينام بسرور، ويأتي ويذهب طلق المحيا، لم يره يوماً من الأيام مُكفهراً أو مُقطباً، فأحضره في مكتبه وقال له: ما شأنك؟ لماذا أنت سعيد كل هذه السعادة؟
فقال له: والله لقد عرفت ربي، وعرفت دربي، وآمنت بالله عز وجل، ولذلك استرحت.
قال: هل لك أن تهديني أو تدلَّني؟
فأخذ بيده إلى أحد المراكز الإسلامية، وهناك تعرّف على الإسلام، وسمع كثيراً من الشرح عنه، فانشرح صدره للدخول في هذا الدين العظيم، وأبدى رغبته لاعتناقه، فلقَّنه القائم على ذلك المركز شهادة التوحيد شهادة أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ ليدخل بها الإسلام، وما إن نطق لسانه بها حتى انهال في بكاءٍ مرير، ودموعٍ حارة، وقال لهم: إنني الآن أشعر بسعادة لم أشعر بها طيلة عمري.
فيا أمة محمد: من لا إيمان له، ولا عمل صالح؛ فوالله إنه في عيشةٍ ضنكة، وحياة نكدة، ولو مَلَكَ من القصور والفلل ما مَلَك، ولو عانق من الثراء قمم الفلك، ولو تولى المناصب وحاز الشهادات ما فاق بها الأحياء ومن هلك.
ليس الذي يعرف الدرب السوي كمن عرف
إن الذي عرف الهدى يمشي على هدي السلف
والأمر الثاني من أسباب الحياة الطيبة: عَمَلُ الصالحات وفق ما شرع الله تبارك وتعالى، وما جاء عن رسوله عليه الصلاة والسلام يقول سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(سورة النحل:97).
أي والله يا عبد الله:
ما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الطاعة، وما يُحِسُّ ببرد العيش، وطيب الحياة؛ إلا في ظل الأنس والقرب من الرب جل جلاله، ولا يخالج النفس شعور الرضا إلا حين تصطلح مع رب الأرض والسماء.
إن السعادة يا عباد الله في الصلة بالله، في مدارسة كتابه، في لزوم ذكره واستغفاره.
إن الحياة الطيبة يا أمة الإسلام في الافتقار إلى الله، في تعظيم حرمات الله، في امتثال أوامر الله.
إن هدأت النفس، وراحة البال أيتها الأمة الخالدة؛ في الانطراح على عتبات الرب، واللجوء إلى الله عز وجل، في محراب العبادة، في التطلع إلى ما عند الله فـ {مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(القصص:60).
يقول صلى الله عليه وسلم: ((ذاق طعم الإيمان: من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً)) رواه مسلم برقم (49).
وإن أول من يسعد بهذه الحياة الطيبة أولئك الذين جعلوا نصب أعينهم قوله سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(العنكبوت:64).
يزهدون في هذه الدنيا طمعاً ألا يكون هذا على حساب آخرتهم كما ورد عن عمر – رضي الله تعالى – أنه قال: "والله لو شئت لكنت ألينكم لباساً، وأطيبكم طعاماً، وأرقكم عيشاً، ولكني سمعتُ الله عيرَّ أقواماً فقال تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ}(الأحقاف:20)"2.
وكان علي بن أبي طالب ذات مرة بمفرده حتى أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه بميل في محرابه؛ فقبض على لحيته يتململ تململ السليم (أي الملدوغ)، ويبكي بكاء الحزين، وقال مخاطباً الدنيا: "هيهات هيهات غُري غيري، قد بتتُك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطركِ يسير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق"3.
فيا غافلاً ويا ساهٍ:
أفق من غفلتك، وأصحو من سكرتك، وخذ طريقك صوب السعادة الحقة، والحياة الطيبة.
يا من مللت الحياة: عدْ إلى ربك، واركب قوارب النجاة، والتحق بقوافل التائبين، واجعل تقوى الله لبوسك تصلك رسل الحياة الطيبة، وتغشى حشاك نفحات السكينة، وتغمر جنباتك السعادة والطمأنينة.
يا ابن آدم: جربت صنوفاً من اللذات، وأشكالاً من اللهو والمغريات، ولا جديد في حياتك، فالملل ما زال ينخر أحشاك، والضجر ما برح يجثم على صدرك، والكآبة ما فتئت تخيم فوق رأسك.
أما كان لك أن تجرب طاعة الله، والقرب منه، وتصطلح مع مولاك، أما آن لك أن تخضع لأوامره، وتستقيم على دينه.
ربك يناديك {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } فاسمع نداه، وأقبل عليه؛ فمن استقام على دين الله عاش عيش السعداء، وختم بخاتمة الأتقياء، وحشر مع الأتقياء، ورافق الأنبياء.
فيا عباد الله: والله لا تطيب الحياة بمثل الإقبال إليه، والانكباب عليه، فاحرصوا عليها، وتزودوا لها، ولا يغركم كثرة الهالكين والغافلين عنها، وتيقنوا أن هذا هو الطريق الذي يوصلكم إلى رضوان ربكم.
أسأل الله أن يكرمنا جميعاً بحياة طيبة، ونفوس هادئة، وقلوب بالله متصلة.
اللهم أعشنا سعداء، وأمتنا سعداء، واحشرنا مع السعداء.
واجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل عسر يسراً، ومن كل بلاء عافية.