لحظة محاسبة

لحظة محاسبة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

الحمد لله الذي وعد من حاسب نفسه، وأخذ بزمامها؛ بالأمن يوم الوعيد، أحمده سبحانه شرّف أولياءه، وتفضل عليهم بيوم المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الحميد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير داع إلى المنهج الرشيد، والهدي السديد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم قدوة الناس في محاسبة النفس، حذراً من يومٍ هوله شديد، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم لا مفرّ منه ولا محيد، وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:

فإن محاسبة النفس هو طريق استقامتها، وكمالها، وفلاحها، وسعادتها يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الحشر:18) قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "وقوله: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادّخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم"1، وقال ابن القيم رحمه لله: "هي التمييز بين ما له وما عليه (يقصد العبد)، فيستصحب ما له، ويؤدي ما عليه، لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود))2، وقال: "فمحاسبة النفس هي نظر العبد في حق الله عليه أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانياً"3.

ومما يدل على أهمية محاسبة النفس ما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تُحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيّنوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}(الحاقة:18)".

وإذا وجد الإنسان من نفسه أَنَفَةً عن محاسبة النفس فليعلم أن ذلك إنما هو نتيجة لما للمعاصي من تراكم على القلب، فيصاب الإنسان بعمى البصيرة عن الرجوع إلى الله، والوقوف على مزالق النفس، ووقوعها في الشهوات، فلا رادع يردعها ويردعه، ولا زاجر يزجرها ويزجره، فيعيش المرء لا همَّ له إلا إشباع غرائزه وشهواته.

وحين يجعل العبد ربه أهون الناظرين إليه فلا تجده يراقبه في خلواته وجلواته، ولا يخاف عقابه، مما يجعل القلب فارغاً من تعظيم الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، فيظن أن محاسبة النفس لا فائدة منها اعتقاداً منه أن لا رقيب يراقبه، ولا حساب يواجهه، ولا يوماً هو ملاقيه.

وحين تكثر النعم، وينشغل الإنسان بالدنيا وزينتها، ناسياً يوم القيامة وأمر الآخرة، وأنه مسئول عن حياته ودقائق لحظاته، ومسئول عما أنعم الله عليه من نعمة السمع والبصر والبدن كما قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}(الإسراء:36)؛ كل ذلك يقلل من محاسبة النفس ومراقبتها، وإصلاح اعوجاجها، وتهذيبها.

وعدم تزكية الإنسان نفسه، وعدم تذكر الآخرة، والانشغال بالملذات والملهيات، والانغماس في المعاصي والمهلكات؛ أمور تدعو كلها إلى ترك محاسبة النفس ومراقبتها يقول ابن القيم رحمه الله: "كان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح فيضع أصبعه فيه ثم يقول: حُسَّ يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا، ما حملك على ما صنعت يوم كذا"، وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عمَّاله: "حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه؛ عاد أمره إلى الندامة والخسارة"، وقال الحسن: "المؤمن قوَّام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خفَّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة"4.

ومما سبق ندرك أن الإنسان ينبغي أن يمقت نفسه في جنب الله؛ لأن مقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين، وبه يدنو العبد من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل

إذا ما أطعت النفس في كل لذة       نُسِبْـت إلى غير الحجا والتكرم

إذا ما أجبت النفس في كل دعوة      دعتك إلى الأمر القبيح المحـرم

ثم لا شك بعد ذلك أن لمحاسبة النفس آثار ومنافع عظيمة منها:

       الإطلاع على عيوب النفس، فإن من لم يطلع على عيوب نفسه لم يمكنه إزالتها.

   المحاسبة توجب للإنسان أن يمقت نفسه في جانب حق الله عليه، وهذا ما كان حال سلف الأمة عليه قال محمد بن واسع محتقراً نفسه على الرغم من أنه كان من كبار العُبَّاد: "لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي"5، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "من مقت نفسه في ذات الله أمَّنه الله من مقته"6.

   ومن ثمار محاسبة النفس إعانتها على المراقبة، ومعرفة أنه إذا اجتهد بذلك في محياه استراح في مماته، فإذا أخذ بزمامها اليوم وحاسبها؛ استراح غداً من هول الحساب يوم القيامة.

       ومن ثمارها أنها تفتح للإنسان باب الذل والانكسار لله تعالى، والخضوع له، والافتقار إليه.

   ومن أعلى ثمارها الربح بدخول جنة الفردوس وسكناها، والنظر إلى وجه الرب الكريم سبحانه، وإن إهمالها يعرض للخسارة ودخول النار، والحجب عن الله.

وترك محاسبة النفس وإهمالها له أضرار عظيمة قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأضر ما عليه: الإهمال، وترك المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور، يُغمض عينيه عن العواقب، ويمشي الحال، ويتكل على العفو، فيُهمل محاسبة نفسه، والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب، وأَنِس بها، وعسر عليه فطامها، ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام، وترك المألوف والمعتاد"7

يا نفس توبي فان الموت قد حانا       واعصِ الهوى فالهوى مازال فتانا أما ترين المنـايا كيف تلقـطنا       لقطاً وتلـــحق أخرانا بأولانا

في كل يوم لنا ميت نشــيعه        نـــرى بمصـرعه آثار موتانا

يا نفس مالي وللأمـوال أتركها       خلفي وأخرج مـن دنياي عريانا أبعد خمسـين قـد قضيتها لعباً      قد آن أن تقصري قد آن قـد آنا ما بالنا نتعامى عـن مصـائرنا       ننسى بغفلتنا من ليـس ينسانـا

نزداد حرصاً وهذا الدهر يزجرنا      قد كان زاجرنا بالحرص أغرانـا أين الملوك وأبنــاء الملوك ومن      كانت تخـر له الأذقـان إذعانا صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا   مسـتبدلـين من الأوطان أوطانا خلـوا مدائن كان العز مفرشـها    واستفرشـوا حفراً غبراً وقيعانا يا راكضاً في ميـادين الهوى مرحاً    ورافلاً في ثياب الغي نشــوانا مضى الزمان وولى العمر في لعب      يكفيك ما قد مضى قد كانا ما كانا

اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، واغفر لنا خطايانا كلها دقها وجلها، وصغيرها وكبيرها، وارحمنا برحمتك يا رب العالمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

 


1 تفسير ابن كثير (8/ 77).

2 مدارج السالكين (1/ 169).

3 إغاثة اللهفان (1/ 88).

4 إغاثة اللهفان (1/79).

5 حلية الأولياء (2/ 349).

6 حلية الأولياء (8/ 104).

7 إغاثة اللهفان (1/82-83).