وسائل معينة على المداومة على العمل الصالح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن أحب العمل إلى الله ما دوام عليه صاحبه وإن قلَّ، لكن السؤال المهم هنا هو: ما هي الوسائل التي تعين المرء على المداومة على العمل الصالح؟
هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذه الأسطر بإذن الله تبارك وتعالى، فنقول:
إن ثمة وسائل تعين المرء على الاستمرار والمداومة على العمل الصالح منها:
أولاً: العزيمة الصادقة، والثبات عليها: يحدثنا عن أهمية ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله فيقول: "كمال العبد بالعزيمة والثبات، فمن لم يكن له عزيمة فهو ناقص، ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص، فإذا انضم الثبات إلى العزيمة أثمر كل مقام شريف، وحال كامل"1، وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد))2؛ يقول ابن القيم رحمه الله: "وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح، وما أتي العبد إلا من تضييعهما، أو تضييع أحدهما، فما أُتي أحد إلا من باب العجلة والطيش، واستفزاز البداءآت له، أو من باب التهاون والتماوت، وتضييع الفرصة بعد مواتاتها، فإذا حصل الثبات أولاً، والعزيمة ثانياً؛ أفلح كل الفلاح"3.
ثانياً:الاقتصاد في العبادة، وعدم الإثقال على النفس بأعمال تؤدي إلى المشقة، وتفضي إلى السآمة والملل من العبادة فقد جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: "أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((أدومها وإن قلَّ))، وقال: ((أكلَفوا من الأعمال ما تطيقون)) رواه البخاري (6100)، وحذَّر صلى الله عليه وسلم من الغلوِّ والتشدُّد فجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة)) رواه البخاري (39).
فعلى المرء المسلم أن تكون عبادته قصداً لا إفراط ولا تفريط، بل تكون على وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((لكل عمل شرة، ثم فترة، فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضلَّ، ومن كانت فترته إلى سنَّة فقد اهتدى))4 يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: "قال له ذلك حين أمره بالاقتصاد في العمل، فكل الخير في اجتهاد باقتصاد، وإخلاص مقرون بالاتباع كما قال بعض الصحابة: "اقتصاد في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة"، فاحرصوا أن تكون أعمالكم على منهاج الأنبياء عليهم السلام وسنتهم"5، و لما دخل صلى الله عليه وسلم المسجد رأى حبلاً ممدوداً بين ساريتين، فقال: ((ما هذا الحبل؟)) قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلَّقت به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا.. حلُّوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد)) رواه البخاري (1099)، ومسلم (784).
ثالثاً: قراءة القرآن بتدبر وتعقل: فإن القرآن يهدي للتي هي أقوم، وهو وسيلة من وسائل الثبات والتثبيت على المداومة على العمل الصالح، وهو الذي ربى الأمة َوأدبها، وزكى منها النفوس، وصفى القرائح، وأعلى الهمم، وغرس الإيمان في الأفئدة، وفي قراءته تثبيت لقلب القارئ المتدبر لما يقرأ؛ لأنه يقرأ آيات الترغيب في العمل الصالح، والترهيب من تركه كقوله تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(المنافقون:10-11).
رابعاً: الإكثار من تذكر الموتِ: فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإكثار من ذكر الموت فقال: ((أكثروا من ذكرَ هاذمِ اللذات))6 أي الموت، فمن أكثر من ذكر الموت نَشَط في عمله، ولم يغتر بطول أمله؛ بل يبادر بالأعمال قبل نزول أجله، ويحذر من الركون إلى الدنيا.
خامساً: صحبة الأخيار: الذين يعينون على طاعة الله عز وجل؛ فإن الإنسان ينشط للقيام بالطاعة حين يرى أن إخوانه من حوله مقيمون عليها، وقد يشعر بالخجل من نفسه إن رآهم على طاعة وهو مقصر، فلهذا كانت صحبة الأخيار، وأهل الفضل والصلاح الذين إذا رآهم الإنسان ذكَّرته رؤيتهم بالله عز وجل وبطاعته؛ محل اهتمام الإسلام.
سادساً: التعرف على سير الصحابة والسلف الصالح: من خلال القراءة للكتب، أو سماع الأشرطة، فإنها تبعث في النفس الهمة والعزيمة، وقد أحسن من قال:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
سابعاً: الدعاء وسؤال الله الثبات، والاستمرار على العمل الصالح: فإن الله سبحانه قد أثنى على الراسخين في العلم أنهم يسألون ربهم الثبات على الهداية: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}(آل عمران:8)، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر في دعاءه أن يقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))7، وأوصى عليه الصلاة والسلام معاذ بن جبل رضي الله عنه بأن يدعو بعد كل صلاة أن يعينه ربه على ذكره وشكره فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: ((يا معاذ والله إني لأحبك، والله إني لأحبك))، فقال: ((أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعنِّي على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك))8، وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: ((رب أعنِّي ولا تعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكر لي ولا تمكر عليَّ..))9، فالتوفيق والعون من الله وحده، وقد أحسن من قال:
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
ثامناً: المحافظة على النوافل: ولو كانت قليلة، وذلك بعد المحافظة على الفرائض، لأن في المحافظة على النوافل صيانة وحماية للفرائض.
تاسعاً: الإكثار من ذكر الله، والاستغفار: فإنه عمل يسير، ونفعه كبير، يزيد الإيمان، ويُقوي القلب، ويبعد عن الغفلة.
عاشراً: البعد عن المعاصي: فإن المعصية تجر إلى أختها، ومن عقوباتها أنها: تحرم العبد لذة العبادة، فتكون مدعاة لترك العمل.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الإيمان والعمل الصالح، وأن يجعلنا صالحين مصلحين، لا ضالين ولا مضلين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 طريق الهجرتين وباب السعادتين (1/400-401) لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، تحقيق : عمر بن محمود أبو عمر، دار ابن القيم – الدمام، ط. الثانية (1414هـ).
2 رواه أحمد (17155) ، وابن حبان في صحيحه برقم (935). وقال محققو المسند: "حديث حسن بطرقه، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه؛ حسان بن عطية لم يدرك شداد بن أوس، ورجال الإسناد ثقات رجال الشيخين".
3 مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/142) لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، دار الكتب العلمية – بيروت.
4 رواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2105 )، وأحمد في مسنده برقم (23521)، وقال محققو المسند ومنهم شعيب الأرناؤوط: "إسناده صحيح".
5 مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/108) لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي – بيروت، ط. الثانية (1393-1973).
6 رواه الترمذي برقم (2307)، والنسائي برقم (1824)، وابن ماجة برقم (4258)، وقال الألباني: "حسن صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3333).
7 رواه الترمذي برقم (2140)، وقال الألباني: "حسن" كما في السلسة الصحيحة برقم (2091).
8 رواه أبو داود برقم (1522)، وأحمد برقم (22179)، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1596).
9 رواه أبو داود برقم (1510)، والترمذي برقم (3551) وابن ماجة برقم (3830)، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الأدب المفرد برقم (665).