هذا النبي

 

 

هذا النبي – صلى الله عليه وسلم –

1- تعريف الأدب.

2- سلوك النبي   العملي مع زوجاته.

3- مواقف من حسن أخلاق النبي   مع زوجاته.

4- سوء المعاملةمن أكبر أسباب الطلاق.

5- سلوك النبي   مع الأطفال.

سنتناول بمشيئة الله في خطبتنا هذه والتي هي بعنوان: “هذا النبي”؛ أخلاق خير البرية محمد  ، وأول الأخلاق العظيمة التي نتنسّم رحيقها من أخلاق النبي   هو خلق الأدب، وحسن المعاملة.

تعريف الأدب:

قال ابن منظور -رحمه الله -: “سُمِّي الأدب أدباً لأنه يؤدّب الناس – يجمع الناس – على المحامد، وينهاهم عن القبائح”، وقال ابن القيم – رحمه الله -: “الأدب هو استعمال الخلق الجميل، واستخراج ما في الطبيعة من كمال” ا.هـ.

ولقد كان نبيناأكمل الناس خلقاً، وأجملهم أخلاقاً، فقد طبّق بأفعاله أقواله، وأظهر المعنى الحقيقي للإسلام كسلوك عملي يظهر أثره في معاملة الناس ومخالطتهم، فكان نِعم القدوة ونِعم الأسوة كما قال الله – سبحانه -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}1، ونحن مأمورون باتباعه، قال عزّ من قائل: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}2.

أحبتي في الله: أعيروني القلوب والأسماع لنرى ونعي معالم منيرة في أدب النبي  ، وإحسانه المعاملة لكل من عامله، ومن هذه المعالم سلوكه العملي مع زوجاته: فعن

عائشة – رضي الله عنها – قالت: “ما ضرب رسول الله بيده خادماً له قطّ ولا امرأة، ولا ضرب رسول الله بيده شيئاً قطّ، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خُيِّر بين أمرين قطّ إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثماً، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه حتى تنتهك حرمات الله – عزّ وجل- فينتقم لله”3.

أحبتي في الله: إن الله جعل الزوجة موضع السكن، وموطن الرحمة للزوج، فقال – سبحانه -: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}4، وأمرنا بالإحسان إليها، وحسن معاشرتها حتى وإن بدا منها ما نكرهه، فلعل الخير فيها ونحن لا نعلم، قال سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}5.

وقد ضرب النبي   بأخلاقه أروع الأمثلة العملية في معاملة الزوجة، وجعل الخيرية فيمن أحسن معاملة زوجته فقال: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))6، وجاء نسوة إلى الرسول   يشكون أزواجهن، فأعلن الرسول على الملأ: ((لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم))7.

وكان الرسول قمّة شامِخة في حياته كلها، إذ ما كانت تشغله الأعباء الجسام التي ينهض بها لتكوين الأمة المسلمة، وتوحيد الكتائب؛ عن أن يكون زوجاً مثاليّاً مع زوجاته في حسن المعاشرة، ودَمَاثَة الخلق، فمن ذلك ما ترويه عائشة – رضي الله عنها – أنها كانت مع رسول الله   في سفر فسابقته فسبقته، فلما حملت اللحم وبَدُنَت سابقته فسبقها فقال: ((هذه بتلك))8.

هكذا تكون الأخلاق العالية، والمعاملة المثالية الراقية، رسول الله   يتسابق مع زوجته ليدخل عليها السرور والفرحة بهذه المعاملة الراقية، ليسمو بالحياة الزوجية فتكون أقدس علاقة، وأقوى رباط، لا تزيدها العواصف والمشاكل الزوجية إلا قوة إلى قوتها، ويُشعِر الأمةَ بأن العلاقة الزوجية يجب أن تتجاوز التعامل من خلال الأوامر والنواهي فقط، ويجب أن لا تقتصر على المعاملة الحازمة، الجادّة الجامدة، بل تتخطّاها إلى مزاح ظريف، ولهو بريء، وسباق يُدخِل السرور على القلوب، والمرح على النفوس، وذلك لأن النفوس تملّ وتكلّ، وتتعب وتنصب، وتحتاج إلى ما يريحها، وأكثر ما يريحها التعامل الراقي الذي ليس فيه انتقاص، ولا احتقار، ولا ازْدِراء.

روت عائشة – رضي الله عنها – أن النبي   كان جالساً، فسمع ضَوْضَاء الناس والصبيان، فإذا الحبشة يرقصون يعني بالحِرَاب، فقال: ((ياعائشة تعالي فانظري))، فوضعت خدّي على مَنْكِبَيه، فجعل يقول: ((ياعائشة ما شبعت؟!)) فأقول: لا؛ لأنظر منزلتي عنده، ولقد رأيته يُرَاوِحَ بين قدميه يعني من طول المدة9، وفي رواية في الصحيحين: “يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف”.

إن المسلم حينما يتأمّل مثل هذه المواقف في حسن المعاملة فإنه يَحَار من عظمتها وسموها ورقيّها، ويتعجب من تبسّطه لإدخال السرور على أهله.

إنه الإسلام ذلك الدين العظيم، الذي أمر الأزواج بحسن المعاملة مع الزوجات، وعلم أن المرأة تحتاج إلى من يتلطّف معها ويسعدها، ويشبع فيها روح الأنس والرضا والرحمة، ويشعرها أنها في ظلّ زوج كريم، يحميها ويرعاها، ويهتم بشؤونها، ويوفر لها حاجاتها المشروعة، ويتجمّل لها بالزينة التي أباحها الشرع، ويعطيها من وقته واهتماماته، فلا يشغل عنها وقته كله في أعماله أو هواياته، أو مسئولياته أو أصحابه، فراعى للمرأة هذه الحقوق، ولم يأذن للزوج بشغل وقته كله حتى ولو بالعبادة كما قال  : ((إن لزوجك عليك حقّاً))10.

ولهذا كان النبي   أفضل الناس في معاملته لزوجاته، فقد كان يراعي في عائشة – رضي الله عنها – إذ كانت صغيرة؛ حُبَّها للّعِب، فلم يسفّهها، ولم يعنّفها، بل كان يُسَرِّبُ إليها البنات لكي يلعبن معها باللُّعَب وقد ورد عن عائشة – رضي الله عنها- أنها قالت: “كانت تأتيني صواحبي، فكنّ يَنْقَمِعْنَ من رسول الله  ، فكان رسول الله   يُسَرِّبُهُن إليّ”11، يَنْقَمِعْنَ: يختفين منه حياءً وهَيْبةً.

ومن حسن معاملته لزوجاته إسماعُهُنّ ما يحلو لهنّ من كلمات الثناء والنداء العَذْبَة التي تحبّها النساء من الأزواج، فقد كان النبي   يُثنِي على عائشة، ويُرَخِّمُ نداءها، فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله   يقول: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثَّرِيد على سائر الطعام))12 وروى البخاري أن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله   يوماً: ((يا عائش، هذا جبريل يُقْرِئك السلام))13، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى – تريد رسولَ الله -“، فانظروا كيف كان يُثنِي عليها، ويناديها باسم مُحَبَّبٍ عندها.

وكان من حسن معاملته إكرامُ صديقات زوجته خديجة – رضي الله عنها – بعد مماتها فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كانت عجوز تأتي النبي   فيَهِشُّ (الهَشَاشَة بالفتح: الارتياح والخِفّة للمعروف) ويكرمها، فقلت: بأبي أنت وأمي، إنك لتصنع بهذه العجوز شيئاً لا تصنعه بأحد، قال: ((إنها كانت تأتينا عند خديجة، أما علمتِ أنّ كَرَم الودّ من الإيمان؟))14، نعم، إنّ كَرَم الودّ من الإيمان، وحسن معاملة الزوجة من الإيمان، والصبر عليها من الإيمان، فقد كان نساء النبي   يراجِعْنَه الحديث وهو رسول الله  ، وتهجره الواحدة يوماً كاملاً إلى الليل، وجرى بينه   وبين عائشة كلامٌ حتى أدخل أبا بكر حَكَماً بينهما، كل هذا مع جلالته وعظمته، فأحسن إليهنّ، وصبر عليهنّ.

معاشر المؤمنين: إنّ إحسان معاملة النساء والصبر عليهنّ كما كان يفعل رسول الله   لهو كفيل بأن يملأ البيت بسحائب الرحمة، وأن يظلّه بظلال المحبة، ويبعد عنه غشاوة العداوة، وضجيج الخلاف الذي يجعل شبح الطلاق مُخَيِّماً فوق كثير من بيوتنا، ولعله ممّا لا يخفى على أحد زيادة معدّلات الطلاق في مجتمعاتنا المسلمة، ومن أكبر أسباب ذلك هو سوء معاملة الزوج لزوجته، وعدم تفهّمه لطبيعة المرأة وطريقة تفكيرها، فهو في عمل وانشغال، وخروج وانتقال، وسفر وارتحال، يأمر وينهى، ويرغب ويتمنّى، كل ذلك يفكّر في نفسه فقط، ولم يوفّر الجو المناسب، والمناخ الملائم للحياة الزوجية الآمنة، يغضب لأتفه الأسباب، ويقيم الدنيا ولا يقعدها حتى ولو في أمر الطعام أو الشراب، فإذا تأخّر الطعام أو لم تُوَفّق زوجته في إعداده ثار وغضب، وقد كان رسول الله   لا يعيب طعاماً قط، إن أحبّه أكله، وإن كرهه تركه، وكان يلتمس الأعذار.

ألا فلنتق الله في زوجاتنا، ولنستوص بهنّ خيراً، كما قال  : ((ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عَوَانٌ عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك))15.

ومن معالم حسن معاملته   إحسان معاملة الأولاد فعن عبد الله بن بُرَيْدَةَ أن أباه حدثه قال: رأيت رسول الله  يخطب، فأقبل حسن وحسين -عليهما السلام – وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل النبي   فأخذهما فوضعهما في حِجْره، فقال: ((صَدَق الله:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}16، رأيت هذين فلم أصبر))17، ثم أخذ في خطبته.إنه لَسلوك عظيم أن يحسن الإنسان معاملة أبنائه حتى في المواقف العظيمة، النبي   ينزل من فوق المنبر، وأمام الجموع؛ ليحمل أسباطه – صلوات الله وسلامه عليه -، ثم يكمل خطبته.

ومن ذلك أيضاً مارواه ابن ماجه أن يعلى بن مُرَّة حدّثهم أنهم خرجوا مع النبي   إلى طعام دُعُوا له، فإذا حسين يلعب في السِّكَّة، قال: فتقدم النبي   أمام القوم، وبَسَط يديه فجعل الغلام يفرّ ها هنا وها هنا، ويضاحكه النبي   حتى أخذه، فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى في فَأْس رأسه فقبّله، وقال: ((حسين مني وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبَّ حسيناً، حسين سِبْطٌ من الأَسْبَاط))18، وفَأْس الرأس أي: قَفَا الرأس.

فيا سبحان الله!يُضاحِك ولده بين أصحابه، ويقبّله بين جموع الرجال ليعلّمهم كيف يعاملون أبناءهم.

ومن ذلك حمله لأولاده في الصلاة فعن أبي قتادة يقول: بينما نحن في المسجد جلوس خرج علينا رسول الله   يحمل أُمَامَة بنت أبي العاص بن الربيع وأمها زينب بنت رسول الله  ، وهي صبيه يحملها على عاتقه، فصلى رسول الله   وهي على عاتقه؛ يضعها إذا ركع، ويعيدها إذا قام، حتى قضى صلاته، يفعل ذلك بها.

فمَن منّا يصبرعلى ولده في الصلاة كما كان يفعل النبي  ؟! مَن منّا يحسن المعاملة مع ولده كما كان يفعل النبي ؟

فإذا رحمتَ فأنت أمٌّ أو أبٌ  هذان في الدنيا هما الرُّحَمَاءُ

اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا، ووفقنا لكل خير وادفع عنا كل ضير، وصلى الله على محمد وآله، والحمد لله رب العالمين.


 


1 الأحزاب (21).

2 الحشر (7).

3 رواه مسلم برقم (4296).

4 الروم (21).

5 النساء (19).

6 رواه الترمذي برقم (3830)، وقال الشيخ الألباني (صحيح) انظر حديث رقم 3314 في صحيح الجامع.

7 رواه أبو داود، وقال الشيخ الألباني (صحيح) انظر حديث رقم 5137 في صحيح الجامع.

8 رواه أبو داود، وقال الشيخ الألباني (صحيح) انظر حديث رقم 7007 في صحيح الجامع.

9 رواه الترمذي، وصححه الألباني برقم (2914).

10 رواه البخاري برقم (1838).

11 رواه مسلم برقم (4470).

12 رواه البخاري برقم (3179).

13 البخاري برقم (3484).

14 رواه البيهقي في الشعب برقم (9121).

15 رواه الترمذي برقم (1083)، وقال الشيخ الألباني (حسن) انظر حديث رقم 7880 في صحيح الجامع.

16 التغابن (15).

17 قال الشيخ الألباني (صحيح) انظر حديث رقم 3757 في صحيح الجامع.

18 حسنه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (118).