يا كثير المزاح، قف!

 

 

يا كثير المزاح، قف!

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين والمرسلين،وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فالمزاح مندوب إليه بين الإخوان، والأصدقاء والخلان؛ والأهل والولدان، لما فيه من ترويح القلوب، والاستئناس المطلوب.

ولكن كثرة وقوعه بين الناس، جعلته ظاهرة مذمومة لدى كثيرٍ منهم، فبعضهم يغلب على طبعه كثرة مزاحه وإسفافه وتماديه فيه، وهذا الأمر مظهر من مظاهر دنوا الهمة، فالمزاح يسقط الهيبة ويخل بالمروءة ويجرئ السفهاء والأنذال.. وقد قال بعض الحكماء:من كثر مزاحه قلت هيبته.

إياك من فرط المزاح فإنه جديرٌ بتسفيه الحليم المسددِ

 

وعلى هذا يخطأ من يتصور أن كثرة المزاح إنما هو تعبير عن طراوة النفس وطيب القلب؛إذ أنه في الحقيقة بوابة إلى مذام كثيرة وآفات خطيرة.

ولكي لا يقع أحدنا في هذا المطب الخطير، حُذِّرنا من كثرة المزاح، وذلك لعواقبه الوخيمة.

قال ابن أبي الدنيا -رحمه الله-: واعلم -عبد الله-: أن للمزاح إزاحة عن الحقوق،ومخرجا إلى القطيعة والعقوق، يصم المازح ويؤذي الممازح.

فوصمة المازح أن يذهب عنه الهيبة والبهاء، ويجري عليه الغوغاء والسفهاء.

وأما أذية الممازَح فلأنه معقوق بقول كريه، وفعل ممض إن أمسك عنه أحزن قلبه، وإن قابل عليه جانب أدبه، فحق على العاقل أن يتقيه وينزه نفسه عن وصمة مساوئه.

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: اتقوا المزاح فإنها حمقة تورث ضغينة.

وقال بعض الحكماء: إنما المزاح سباب إلا أن صاحبه يضحك.

وقيل: إنما سمي المزاح مزاحاً؛ لأنه يزيح عن الحق.

وقال إبراهيم النخعي: المزاح من سخف أو بطر.

وقيل في منثور الحكم: المزاح يأكل الهيبة كما تأكل النار الحطب.

وقال بعض الحكماء: من كثر مزاحه زالت هيبته، ومن ذكر خلافه طابت غيبته.

وقال بعض البلغاء: من قل عقله كثر هزله.

وذكر خالد بن صفوان المزاح فقال: يصك أحدكم صاحبه بأشد من الجندل، وينشقه أحرق من الخردل، ويفرغ عليه أحر من المرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحك.

وقال بعض الحكماء: خير المزاح لا ينال، وشره لا يقال.

قال النيسابوري في قصيدته الجامعة للآداب:

شر مزاح المرء لا يقال وخيره يا صاح لا ينال
وقد يقال كثرة المزاح من الفتى تدعو إلى التلاح
إن المزاح بدؤه حلاوة لكنما آخره عداوة
يحتد منه الرجل الشريف ويجتري بسخفه السخيف

واعلم أنه قلما يعرى من المزاح من كان سهلاً، فالعاقل يتوخى بمزاحه إحدى حالتين لا ثالث لهما:

إحداهما: إيناس المصاحبين والتودد إلى المخالطين، وهذا يكون بما أنس من جميل القول،وبسط من مستحسن الفعل.

وقد قال سعيد بن العاص لابنه: اقتصد في مزاحك فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ عليك السفهاء، وإن التقصير فيه يفض عنك المؤانسين، ويوحش منك المصاحبين.

والحالة الثانية: أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه من سأم، وأحدث به من هم، فقد قيل: لا بد للمصدور أن ينفث، وأنشدت لأبي الفتح البستي:

ويجتري بسخفه السخيف يجم وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن بمقدار ما تعطي الطعام من الملح

وقد كان النبي   يمزح على هذا الوجه.والمقصود أن المزاح لا ينبغي الإكثار منه ولا الإسفاف فيه، أما ماعدا ذلك فيحسن لما فيه من إيناس الجليس وإزالة الوحشة ونفي الملل والسآمة، وإنما المزاح في الكلام كالملح في الطعام إن عدم أو زاد على الحد فهو مذموم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.