ارفع بصرك إلى السماء أيها الظالم

ارفع بصرك إلى السماء أيها الظالم

الحمد لله رب العالمين، الحاكم فوق عباده، الغالب على أمره، القوي في قهره، الحكم العدل سبحانه، حرَّم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرماً، والصلاة والسلام على صاحب الخلق العظيم، والعدل القويم، محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد:

أيها الناس: لقد خلق الله بني البشر لحكمة بالغة هي عبادته، وتوحيده، وإفراده، وأنزل لهم شرائع توضح لهم ذلك، وأرسل لهم رسلاً يقرؤون لهم ما أنزل ربهم عليهم رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً1، فكان دين الله خير الأديان على الإطلاق؛ لأنه منزل من الحكيم العليم سبحانه دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ2، ثم قال سبحانه بعد أن أقام الحجة على خلقه: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى۝ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى3، ومن حِكَمِ الله أن جعل هؤلاء البشر سواسية في الأوامر والنواهي، وجعلهم مفتقرين إليه، ضعفاء بين يديه، وجمعهم على كلمة واحدة هي كلمة التقوى التي هي العروة الوثقى لا انفصام لها إنها: (لا إله إلا الله)، فمن قالها، وعمل بمقتضاها من عربي أو عجمي فضل على غيره يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ4.

وحرَّم – سبحانه – أن يتكبر أحد على أحد، أو يطغى بشر على بشر، أو يحيف شخص على آخر؛ لأجل ذلك حرَّم – سبحانه – الظلم وشنَّعه، وأعلن بغض أهله، وتوعد بأليم العقاب على من اتصف به فقال سبحانه: وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ5، وقال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ6.

أيها الناس: ألا وإن أعظم الظلم على الإطلاق الشرك بالله – تعالى – قال – سبحانه -: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ7 وهو أن تجعل لله نداً وهو خلقك، فتدعو غيره لكشف ضر، أو جلب نفع لا يقدر عليه إلا الله – سبحانه -، أو تخاف من غيره، أو ترجو غيره وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ8.

“وإن من الظلم أن تأخذ مال غيرك بغير حق فعن محمد بن إبراهيم أن أبا سلمة حدثه: أنه كانت بينه وبين أناس خصومة، فذكر لعائشة – رضي الله عنها – فقالت: يا أبا سلمة اجتنب الأرض؛ فإن النبي  قال: من ظلم قيد شبر من الأرض طوَّقه من سبع أرضين9، فيا له من عقاب عظيم، ومشهد فظيع؛ أن يأتي الإنسان يوم العرض الأكبر وعلى ظهره سبع أرضين، يحملها على ظهره!!

ومن الظلم معشر المسلمين: الغيبة والنميمة، فأما الغيبة فهي ذكرك أخاك بما يكره سواء أكان فيه ما تقول، أو لم يكن فيه، فمن اغتاب أحداً فعليه أن يستغفر الله، ويتوب إليه، وأن لا يعود إلى الغيبة، ثم إن كان صاحبه قد علم فعليه أن يستحله، وإن كان لم يعلم فعليه أن يثني عليه بما فيه من الخصال الحميدة في مقابلة غيبته إياه، وأما النميمة فهي أن تنقل كلام الناس من بعضهم في بعض لتفسد بينهم مثل أن تقول: فلان يقول فيك كذا وكذا تحرش بينهما، فإن هذا لا يحل ولا يجوز، وهو سبب للعقوبة في الدنيا، والعذاب في الآخرة”10.

وانظروا عباد الله إلى هذا الحديث القدسي البديع الذي يكاد القلب أن ينخلع عند قراءته لعظمته فعن أبى ذر  عن النبي  فيما روى عن الله – تبارك وتعالى – أنه قال: يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا11 فما ألطفه من خطاب، وما ألينه من كلام

ومما زادني شرفـــاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً

لقد حرَّم الله الظلم على نفسه الكريمة، فما أشنعه من ذنب، وأعظمها من كارثة؛ أن يأتي هذا الإنسان الضعيف الصغير فيظلم من هم دونه من الناس، يظلم زوجته، أو أخته، والقوي يتسلط على الضعفاء من خلق الله – سبحانه -!!

فارفع بصرك قليلاً أيها الظالم إلى السماء لترى عظمة الخالق الكبير، ثم اخفضه قليلاً إلى تلك الجبال الشامخات لتبصر شيئاً من قوته واقتداره، ثم سرِّح نظرك في هذه الأرض لتشاهد لطفه وتدبيره، وحكمته وعلمه إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ12، وهو مع هذا كله حرَّم الظلم على نفسه سبحانه!! جاء عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -: أن رسول الله  قال: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة؛ فرَّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة13، وعن أبى هريرة  قال: قال رسول الله : لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه14.

نسي الطين ساعة أنه طـين حقيـر فصال تيهاً وعربد
وكسى الخزّ جسمه فتباهى وحوى المال كيسه فتمرّد
يا أخي لا تمل بوجهك عنّي ما أنا فحمة و لا أنت فرقد

وعن جابر بن عبد الله  أن رسول الله  قال: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة15، ظلمات يوم القيامة، وندامات وحسرات، وزفير وأنات في هذه الدنيا، وبعد الممات.

ويا ويل من ظلم ضعيفاً لا يجد له ناصراً غير الله سبحانه، يا ويل من أبكى صغيراً لا حول له ولا قوة، أو جرح مشاعر طالب، أو نهر سائلاً، أو قهر يتيماً، أو أحزن أرملة، أو عادى ولياً صالحاً – عالماً، أو مجاهداً، أو عابداً – فآذاه أو شهّر به، أو عذبه، أو تسبب في ظلمه، من عمل هذا مع عبد من عباد الله الصالحين بغير حق – إما لمال، أو شهوة، أو منصب – فليبحث له عن سلاح ليحارب الملك العلام – جل في عليائه، وتقدس في أسمائه وصفاته!! -؛ فلقد قال في الحديث القدسي: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب16، ومحارب الله محروب، ومغالبه مغلوب، مكسور مدحور، وقال رسول الله : من أكل بمسلم أكلة أطعمه الله بها أكلة من نار جهنم يوم القيامة، ومن أقام بمسلم مقام سمعة أقامه الله يوم القيامة مقام سمعة ورياء، ومن اكتسى بمسلم ثوباً كساه الله ثوباً من النار يوم القيامة17.

أيها الظالم! يا من تسلطت على الناس بمالك، أو منصبك، أو جاهك أو قوتك، أو قلمك؛ ألا تأمن على نفسك أن يقوم المظلوم في ظلمة الليل وأنت تغط في نومك فينادي ربه باكياً مجروحاً، محروقاً متألماً: اللهم إن فلان بن فلان ظلمني، وأخذ حقي، اللهم إنه استعان بقوته على ضعفي، اللهم فإني أستعين بقوتك عليه يا ناصر المظلومين، وقاهر الظالمين فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً18.

لا تظلمن إذا كنت مقتـدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتــبه يدعو عليك وعين الله لم تنم

قال أبو مسعود البدري : كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: اعلم أبا مسعود فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله  فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، قال: فألقيت السوط من يدي فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً19، و”قال معاوية : إني لأستحي أن أظلم من لا أجد له ناصراً عليَّ إلا الله”، وقال أبو الدرداء : “إن أبغض الناس إليَّ أن أظلم من لم يستعن عليَّ إلا بالله”.20

وقال أحدهم  لأبي جعفر المنصور يعظه: “يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك الدنيا بكمالها؛ فاشتر نفسك منه ببعضها، واعلم أنك واقف بين يديه، وسائلك عن مثاقيل الذر من الخير والشر، وإنه لا يرضى منك إلا بما لا ترضى لنفسك إلا به، وأنت لا ترضى إلا بأن يعدل عليك، والله – تعالى – لا يرضى إلا بالعدل على الرعية، يا أمير المؤمنين إن وراء بابك ناراً تأجج من الظلم والجور، والله ما يعمل خلف بابك بكتاب الله، ولا سنة نبيه ” قال: فبكى أبو جعفر بكاء شديداً، فقال له سليمان بن مجالد: اكفف عن أمير المؤمنين فقد شققت عليه، فقال: “إن أمير المؤمنين ميت غداً، وكل ما ترى ها هنا أمر مفظع، وأنت جيفة بالعراء، فلا يغني عنك إلا عملك، ولهذا الجدار خير لأمير المؤمنين منك إذا طويتَ عنه النصحية، ثم قال: يا أمير المؤمنين إن هؤلاء اتخذوك سُلّماً لشهواتهم، فكلهم يوقد عليك ناره، ثم تلا: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ21 إلى أن بلغ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ22…”23 “وقال الاوزاعي – رحمه الله -: كان عمر بن عبد العزيز إذا أراد أن يعاقب رجلاً حبسه ثلاثاً ثم عاقبه، كراهية أن يعجل في أول غضبه”24 كل هذا خوفاً من أن يظلم أحداً من رعيته – رحمه الله -.

“وقال يحيى بن أكثم: ماشيت المأمون في بستان، والشمس على يساري، والمأمون في الظل، فلما رجعنا وقعت الشمس أيضاً عليَّ، فقال لي المأمون: تحول مكاني وأنا أتحول مكانك حتى تكون في الظل كما كنت، وأقيك الشمس كما وقيتني، فإن أول العدل أن يعدل الرجل على بطانته، ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ العدل الطبقة السفلى”25.

وقال الأوزاعي – رحمه الله – للمنصور في بعض كلامه: “يا أمير المؤمنين لو أن ثوباً من النار صُبَّ على ما في الأرض لأحرقه، فكيف بمن يتقمصه؟ ولو أن ذنوباً من النار صب على ما في الأرض لأحرقه، فكيف بمن يتجرعه؟ ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبل لذاب، فكيف بمن يُسلك فيها، ويرد فضلها على عاتقه؟”26، وكان أبو مسلم الخولاني – رحمه الله – يقول لامرأته: “يا أم مسلم شدي رحلك، فليس على جسر جهنم معبر”، “وسمع ابن عباس – رضي الله عنهما – كعب الأحبار يقول: من ظلم خرب بيته، فقال تصديقه في القرآن: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا27، وقيل: “الظلم أدعى شيء إلى تغيير نعمة، وتعجيل نقمة”28، وقيل: “إذا ظلمت من دونك عاقبك من فوقك”29، وقال أبو العتاهية:

ستعلم يا ظلوم إذا التقيـنا غداً عند الإله من الظلوم
أما والله إنَّ الظُّلم شــؤمٌ وما زال المسيء هو الظَّلوم
إلى دياَّن يوم الدّين نمضـي وعنـد الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا غداً عند الإله من الملوم30 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ۝ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء۝ وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ31.

اللهم احفظ جوارحنا وألسنتنا وقلوبنا من الظلم ما صغر منه وعَظُمَ إنك مجيب الدعاء. 


1سورة النساء (165).

2سورة الأنعام (161).

3 سورة طه (123-124).

4 سورة الحجرات (13).

5 سورة آل عمران (57).

6 سورة إبراهيم (42).

7 سورة لقمان (13).

8 سورة الزمر (65).

9 رواه البخاري برقم (2321)، ومسلم برقم (4222).

10 من خطبة لابن عثيمين – رحمه الله – لموقع الألوكة ( /1) عن الشاملة بتصرف.

11 رواه مسلم برقم (6737).

12 سورة الأنعام (83).

13 رواه البخاري برقم (2310)، ومسلم برقم (6743).

14 رواه مسلم برقم (6706).

15 رواه مسلم برقم (6741).

16 رواه البخاري برقم (6502).

17 أخرجه الحاكم في المستدرك برقم (7166)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد برقم (179/240).

18 سورة الكهف (40).

19 رواه مسلم برقم (4396).

20 محاضرات الأدباء (1 /100).

21 سورة الفجر (6).

22 سورة الفجر (14).

23 فضيلة العادلين من الولاة (1 /24).

24 سير أعلام النبلاء (5 /133).

25 سراج الملوك للطرطوشي (1 /42).

26 سراج الملوك للطرطوشي (1 /24).

27 سورة النمل (52).

28 محاضرات الأدباء (1 /100).

29 محاضرات الأدباء (1 /100).

30 موسوعة الشعر الإسلامي (1 /100).

31 سورة إبراهيم (42-44).