المحبة

 

 

المحـبة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. أما بعــد:

عباد الله:

إن الحب سر الحياة، وغذاء النفس، وقوت الروح.. بالحب تشرق الدنيا، وتضيء الوجوه وتتألّق العيون “والمحبة نشيد لا يطرب عليها إلا محب مغرم، والحب غدير في صحراء ليس عليه جادة، فلهذا قل وراده، والمحب يهرب إلى العزلة والخلوة بمحبوبه، والتعلق بذكره، كهرب الحوت إلى الماء، والطفل إلى أمه”1. و”بالحب تصفو الحياة، ويرقص القلب،  وبالحب تغفر الزلات، وتقال العثرات، وترفع الدرجات، ولولا الحب ما التف الغصن على الغصن، ولا بكى الغمام على جدب الأرض، ولا ضحكت الأرض لزهر الربيع، وحين ينتهي الحب ويضيع، تظلم النفوس، وتضيق الصدور، فما أجمل الحب، وما أكثر مدعيه؟2

“ونحن في زمان قست فيه القلوب، وانقطعت فيه أواصر المحبة، وقلبت فيه المفاهيم، ولبس الأعداء ثياب الأصدقاء، وتبارى المبغضون والمعادون ليتزيوا بزي المحبين والمخلصين،في هذا الزمان نحن أحوج ما نكون إلى الحديث عن المحبة، ولا نعني المحبة التي فقدها الناس فيما بينهم، وإنما: المحبة العظمى، التي لا سعادة ولا راحة ولا طمأنينة للقلوب البشرية إلا بها”3.

إخواني: “المحبة ليست قصصاً تروى، ولا كلمات تقال، ولا ترانيم تغنى، المحبة لا تكون دعوى باللسان، ولا هياماً بالوجدان، وإنما هي طاعة لله ولرسوله  ، المحبة عمل بمنهاج الرسول -صلى الله عليه وسلم-، تتجلى في السلوك والأفعال والأقوال”.4

والله يُحب لذاته من جميع الوجوه، وما سواه فإنما يحب تبعاً لمحبته -جل وعلا-،فالله هو الذي خلق، وهو الذي رزق.. والقلوب مفطورة ومجبولة على حب من أنعم عليها، والإحسان كله لله، والنعم كلها من عند الله، فلا يستحق بعد ذلك كمال المحبة إلا هو -جل وعلا-.

“ومحبة الله تعالى على درجتين: إحداهما: واجبة، وهي المحبة التي توجب للعبد محبة مايحبه الله من الواجبات، وكراهة ما يكرهه من المحرمات، فإن المحبة التامة تقتضي الموافقة لمن يحبه في محبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه… وسئل بعضهم عن المحبة، فقال: الموافقة في جميع الأحوال:

ولو قلت لي مُتْ مُتُّ سمعاً وطاعة وقلت لداعي الموت أهلاً ومرحباً

وأنشد بعضهم:

 

تعصي الإله وأنت تزعم حبه   هذا لعمري في القياس شنيعُ

 

لو كان حبك صادقا لأطعته  إن المحب لمن يحـب مطيعُ

 

 

وهناك درجة أعلى للمحبة: وهي درجة المقربين، وهي أن يمتلئ القلب بمحبة الله تعالى حتى توجب له محبة النوافل، والاجتهاد فيها، وكراهة المكروهات، والانكفاف عنها، والرضا بالأقضية والأقدار المؤلمة للنفوس لصدورها عن المحبوب..

كما قيل: 

  تلذ لي الآلام إذ كنت مسقمي    وإن تختبرني فهي عندي صنائعُ
تحكـم بما تهـواه فيّ فإنـني   فقير لسلطان المحبة طائعُ

وأقل ثمن المحبة بذل الروح؛ ولهذا قيل: إن كنت تسمح ببذل روحك في هذه الطريق، وإلا فلا تشتغل بالترهات:

 

خاطر بروحك في هوانا واسترح إن شئت تحظى بالمحل الأعظمِ
لا يشغلنك شاغل عن وصلنا  وانهض على قدم الرجاء وقدمِ”5

أيها المسلمون:  إن محبة غير الله ضائعة ومنقطة،ٌ جاء جبريل إلى النبي   فقال: “يا محمد: عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه…”6. وقال ابن القيم -رحمه الله- عن هذه المحبة وهي محبة الله: “…المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عملها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، وهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب”7.

 

ويتبع ذلك محبة ما يحبه الله -عز وجل- من الأشخاص والأعمال، وكراهة ما يكرهه من ذلك. وأعظم من تجب محبته في الله تعالى أنبياؤه ورسله، وأعظمهم نبيه محمد، الذي افترض الله على الخلق كلهم متابعته، وجعل متابعته علامة لصحة محبته، وتوعد من قدم محبة شيء من المخلوقين على محبته ومحبة رسوله ومحبة الجهاد في سبيله، كما في قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ}(24) سورة التوبة”8.

عباد الله: إن محبة الله “هي أصل التأله والتعبد له، بل هي حقيقة العبادة، ولا يتم التوحيد حتى تكمل محبة العبد لربه، وتسبق محبته جميع المحاب وتغلبها، ويكون لها الحكم عليها بحيث تكون سائر محاب العبد تبعا لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه. ومن تفريعها وتكميلها الحب في الله، فيحب العبد ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص، ويبغض ما يبغضه الله من الأشخاص والأعمال، ويوالي أولياءه ويعادي أعداءه، وبذلك يكمل إيمان العبد وتوحيده”9.

أيها المسلمون: كيف نحصل على محبة الله -عز وجل-؟ إن أفضل ما تستجلب به محبة الله -عز وجل- فعل الواجبات، وترك المحرمات… ثم بعد ذلك الاجتهاد في نوافل الطاعات، وترك دقائق المكروهات والمشتبهات… ومن الأعمال التي توصل إلى محبة الله تعالى وهي من أعظم علامات المحبين: كثرة ذكر الله -عز وجل- بالقلب واللسان… قال بعض التابعين: “علامة حب الله كثرة ذكره، فإنك لن تحب شيئاً إلا أكثرت ذكره، المحبون إن نطقوا نطقوا بالذكر، وإن سكتوا اشتغلوا بالفكر:

فإن نطقت فلم ألفظ بغيركم  وإن سكت فأنتم عند إضماري

فالذي يحب مولاه -عز وجل- يكثر من ذكره على جميع أحواله، فالناسي له لا يكون محباً كامل المحبة: “واعجباً لمن يدعي المحبة ويحتاج إلى من يذكره بمحبوبه، فلا يذْكُره إلا بمذكِّر! أقل ما في المحبة أنها لا تنسيك تذكر المحبوب.

 

ذكرتك لا أني نسيتك ساعة وأيسر ما في الذكر ذكر لساني”10

قال شيخ الإسلام: “فأي شيء يحرك القلوب؟ قلنا: يحركها شيئان: أحدهما: كثرة الذكر للمحبوب، لأن كثرة ذكره تعلق القلوب به، ولهذا أمر الله -عز وجل- بالذكر الكثير، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}(41-42)سورة الأحزاب الآية. والثاني: مطالعة آلائه ونعمائه، قال الله تعالى: {فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(69)سورة الأعراف.”11. ومن علامات المحبين لله -وهو ما يحصل به المحبة أيضاً- حب الخلوة بمناجاة الله تعالى، وخصوصاً في ظلمة الليل:

 

الليل لي ولأحبابي أسامرهم      قد اصطفيتهم كي يسمعوا ويعوا”

“أين رجال الليل؟! أين ابن أدهم والفضيل؟! ذهب الأبطال، وبقي كل بطال، يا من رضي من الزهد بالزي، ومن الفقر بالاسم، ومن التصوف بالصوف، ومن التسبيح بالسبح، أين فضل الفضيل؟ أين بِشرُ بشر؟! أين همة ابن أدهم؟!… يا من كان له قلب فانقلب؟ يا من كان له وقت مع الله فذهب؟ قيام الأسحار يستوحش لك، صيام النهار يسأل عنك، ليالي الوصال تعاتبك على انقطاعك..

 

إخواني: مجالس الذكر شراب المحبين، وترياق المذنبين {قد عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مشربَهم}(البقرة:60) مجالس الذكر مآتم الأحزان، فهذا يبكي لذنوبه، وهذا يندب لعيوبه، وهذا يتأسف على فوات مطلوبه، وهذا يتلهف لإعراض محبوبه، وهذا يبوح بوجده، وهذا ينوح على فقده…”12. هذه بعض الأمور التي تنال بها محبة الله -سبحانه وتعالى- وسنكمل في الخطبة الثانية-بإذن الله-. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على نعمه، والصلاة والسلام على خير عباده ورسله.. أما بعد:

أيها المسلمون: ومن علامات محبة الله تعالى:

الإقبال على حديثه وإلقاء سمعه كله إليه بحيث يفرغ لحديثه سمعه وقلبه، وإن ظهر منه إقبال على غيره فهو إقبال مستعار يستبين فيه التكلف لمن يرمقه… فالمحبون لا شيء ألذ لهم ولقلوبهم من سماع كلام محبوبهم، ولهذا لم يكن شيء ألذ لأهل المحبة من سماع القرآن، وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اقرأ عليّ)، قلت: اقرأ عليكَ وعليكَ أنزل؟! قال: (إني أحب أن أسمعه من غيري) فقرأت عليه من أول سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا}(41)سورة النساء، قال: (حسبك الآن)، فرفعت رأسي فإذا عيناه تذرفان”13، 14.

– طاعة رسوله: وإلا كيف تكون المحبة بلا طاعة للرسول وامتثال لأوامره، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(31)سورة آل عمران، “فجعل سبحانه متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- سببا لمحبتهم له، وكون العبد محبوباً لله أعلى من كونه محباً لله فليس الشأن أن تُحب الله فحسب، ولكن الشأن أن يحبك الله، قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحنة: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(31) سورة آل عمران. فالطاعة للمحبوب عنوان محبته، كما قيل:

ومن لو نهاني من حبه     عن الماء عطشان لم أشرب

ولهذا قالت اليهود والنصارى كما حكى الله عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}(المائدة:18)، فالدعوى المجردة كلٌ يدعيها، حيث يدعي اليهود أنهم أحباب الله، ويدعي النصارى أنهم أحباب الله، ويدعي أصحاب الضلال أو أصحاب البدع أنهم أحباب الله وأحباب رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن ما الذي يميز ذلك ويصدقه أو يكذبه؟ إنه المتابعة للرسوله”15.

أيها المسلمون: إن من علامات حب الله تعالى لعبده: أن يضع له القبول والمحبة في السماء والأرض، قال رسول الله  : (إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يجب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء-قال-:ثم يوضع له القبول في الأرض…)16. فينال من الرفعة والإكرام عندهم المرتبة الرفيعة، كما صنع الله لموسى فقال تعالى ممتناً عليه: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي}(39)سورة طـه. ” فلله الحمد والثناء، وصفو الوداد، ما أعظم بره، وأكثر خيره، وأغزر إحسانه، وأوسع امتنانه”17.

عباد الله: هذه هي المحبة النافعة والمحبة الباقية، وهي محبة الله- عز وجل- ومحبة ما يحبه، وهذه هي الوسائل التي نصل بها إلى محبة الله، نسأل الله أن يجعلنا من المحبين له،والمحبين فيه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 



1 – بدائع الفوائد جزء 3-صفحة 735 

2 – من موقع صيد الفوائد

5 – اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى، لابن رجب الحنبلي (ج 1 / ص 24)

6 المعجم الأوسط للطبراني (4429)

7 – مدارج السالكينجزء 3- صفحة 7  

8 – اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى  (ج 1 / ص 25)

9 – القول السديد شرح كتاب التوحيد – (ج 1 / ص 116)

10 – الفوائد، لابن القيمجزء 1- صفحة 77 

11 – مجموع الفتاوى، لابن تيمية جزء 1- صفحة 95 

12 – اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى – (ج 1 / ص 26)

13 – أخرجه البخاري ( 4216) ومسلم ( 1333)

14 – روضة المحبين، لابن القيم جزء 1- صفحة 267 

 http://www.alminbar.net/alkhutab/khutbaa.asp?mediaURL=9212 15

16 – أخرجه البخاري ( 6931) ومسلم ( 4772)

17 – تفسير السعدي (ج 1/ص 918)