العبادة بنية دنيوية
الشيخ: محمد صالح المنجد
الجمعة 10/4/1431هـ
عناصر الموضوع:
1. إخلاص النية لله في العبادات.
2. نماذج من السلف وابتغاؤهم ما عند الله.
3. عمل الصالحات لمقصد دنيوي.
4. أحوال العصاة يوم القيامة.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله..
أما بعد:
إخلاص النية لله في العبادات
فإن الله -سبحانه وتعالى- قد أمرنا أن نعمل ابتغاء وجه الكريم، وأن نريد الدار الآخرة بهذه الأعمال الصالحة، فقال -عز وجل-: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ* وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (200-201) سورة البقرة.
ومن الناس من يريد بعمله ثواب الدنيا ولا يرجو ما عند الله، وقد قال الله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} (18) سورة الإسراء.
والنية -يا عباد الله- محط نظر الله من العبد، والعباد يبعثون على نياتهم، فالنية هي نواة الصلاح وبذرة القبول، وأعمال العبادِ مرهونة بصلاح النوايا، وحظ العامل من عمله نيته، فإن كانت صالحة فعمله صالح وله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد وعليه وزره، وصلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية.
ولأهمية النية وجلالة قدرها كان الناس فيها أصنافاً، صنف يبتغي بعمله ونيته وجه الله والدار الآخرة، ولا رغبة له في شيء من الدنيا، فهذا أكرم الأصناف وأشرفها، وصنف يبتغي بعمله ونيته الدنيا من كل وجه ولا يريد وجه الله، فهذا أخس الأصناف وأرداها، وليس له في الآخرة من نصيب ولا خلاق، وصنف يبتغي وجه الله وثواب الدار الآخرة بالقصد الأول، وهو مع ذلك يطلب ثواب الدنيا، فهذا لا شيء عليه لكنه دون الأول في الثواب كما قال العلماء.
وقد يقول بعض الناس: إن الأعمال الصالحة لها ثواب معجل في الدنيا، كبِرِّ الوالدين مثلاً.. فكيف تكون النية؟
نقول: تكون النية بإرادة وجه الله والدار الآخرة، واللهُ من كرمه يعجل للبارِّ من ثواب عمله في الدنيا كبرِّ أولاده به وصحة ورزقاً، ونحو ذلك.
وهكذا قد يقول قائل: إن الاستغفار له في الدنيا فوائد، فنحن إذا استغفرنا ماذا ننوي؟ وقد قال الله: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} (10-12) سورة نوح، فهذا ثواب الاستغفار المعجل في الدنيا: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} (10-11) سورة نوح، فهل نحن إذا استغفرنا نقصد هذا وننوي باستغفارنا أن يحصل لنا هذا؟ الجواب: إذا قصدنا هذا فقط فليس لنا إلا هو، قال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} (200) سورة البقرة، لكن إذا قصد الإنسان بالاستغفار وجه الله والدار الآخرة أي ينوي أن تغفر ذنوبه فإنه سيحصل له من كرم الله حسنات في الدنيا تبعاً، فعلى العبد أن ينوي بعمله وجه الله، وأما الآخر فسيحصل له تبعاً.
ولما أراد نوح -عليه السلام- أن يذكر قومه الكفرة بتوحيد الله والتوبة إليه والاستغفار ذكرهم بأن هذه الحسنة الأخروية لها منافع دنيوية، وهؤلاء الكفار يجتذبون بأن للتوحيد وللتوبة والاستغفار فوائد معجلة في الدنيا إذا فعلوا ذلك، فتتألف قلوبهم بهذا، لكن المسلم إذا قصد وجه الله بالاستغفار فإن مما يحصل تبعاً لذلك أن يرزق به، فهو عندما يستغفر لا يقصد الدنيا بل يقصد الآخرة، وغفران الذنوب، والأجر من الله، والنجاة من النار، والفوز بالجنة، لكن يحصل له تبعاً هذه التي ذكرها الله -عز وجل- دون أن يقصدها استقلالاً أو ابتداءً، وهذا هو معقد الأمر الذي يخفى على كثير من الناس، ولذلك تراهم يقصدون أشياء من الدين يعملونها لأجل الدنيا، فإذا مرض أحدهم أو مرض له ولد قال: ((داووا مرضاكم بالصدقة)) فيدفع الصدقة للشفاء لأجل الآخرة، وهذا ليس له في الآخرة من نصيب؛ لأن كل النية والدافع للعمل هو الشفاء، وهو شيء دنيوي، لكن لو تصدق ابتغاء وجه الله والثواب من الله في الآخرة، ورغبة في الجنة والمغفرة فإنه سيحصل له تبعاً شفاء في الدنيا، ولا يحتاج الإنسان أن ينويه ليحصل؛ لأن الله كريم يعطي عبده في الدنيا مقدمات، ولذلك فإن بعض الأعمال إذا أُشركت الدنيا في نيتها مع الآخرة فإما أن ينقص من الأجر أو يسقط.
نماذج من السلف وابتغاؤهم ما عند الله
وقد كان الصحابة عندما يخرجون إلى الجهاد في سبيل الله لا يقصدون الغنائم وإنما يقصدون الشهادة، ويقصدون ثواب الآخرة، ويقصدون مرضاة الرب -عز وجل- والغنائم تحصل تبعاً، وإلا فإن الرجل إذا خرج يلتمس المغنم أو خرج يلتمس فخراً فلا شيء له عند الله كما في قصة الرجل الذي سأل عن الغزو قائلاً: الرجل يغزو ويلتمس الأجر والذكرى ما له؟ يعني يلتمس الفخر في الدنيا والسمعة فيقال: فلان شجاع، أو فلان جريء، فأخبره النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه ليس له شيء عند الله؛ لأنه أشرك الدنيا في عمله ذلك.
قال أبو وائل: عدنا خباباً فقال: "هاجرنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيء، ومنا من أينعت له ثمرته -يعني نضجت- فهو يهدبها -يعني: يجتنيها-" رواه البخاري ومسلم.
إذن: لماذا هاجروا؟ ليس للزواج من فلانة، أو لمجرد الوصول إلى مكان آمن، أو لممارسة تجارة، أو لأن الأرض هناك أخصب، لا، وإنما هاجروا لله.
يقول: "هاجرنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئاً" يعني مثل مصعب بن عمير، "ومنا من أينعت له ثمرته" يعني فتح الله عليه ورزقه.
جاءت الأرزاق تبعاً للأعمال وليست أساساً ولا قصداً فيها، وأبو طلحة -رضي الله عنه- لما تصدق ببستان له قال للنبي -عليه الصلاة والسلام-: ((إنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله)) رواه البخاري ومسلم.
قيل للحسن بن علي يوماً: إن الناس يقولون: إنك تريد الخلافة؟ فقال: "كانت جماجم العرب في يدي" يعني كان الناس طوع أمري، وذلك أنه بعد مقتل أبيه الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه اجتمع الناس عليه ولكن الحسن تنازل.
قال: "كانت جماجم العرب في يدي يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت فتركتها ابتغاء وجه الله" رواه الحاكم وقال الذهبي: على شرط البخاري ومسلم.
وهكذا كان ديدن الصالحين، إذا عملوا العمل الصالح فالقصد وجه الله، القصد الدار الآخرة، القصد ثواب الله.
قال شبيب بن شيبة: كنا في طريق مكة فجاء أعرابي في يوم صائفٍ شديد الحر، ومعه جارية له سوداء -أمة يملكها- وصحيفة فقال: أفيكم كاتب؟! قلنا: نعم، فقال: اكتب، ولا تزيدن على ما أقول لك حرفاً: هذا ما أعتق عبد الله بن عقيل الكلابي، أعتق جارية له سوداء يقال لها: لؤلؤة؛ ابتغاء وجه الله وجواز العقبة العظمى…"، {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ} (11-13) سورة البلد.
ما هي العقبة العظمى؟ العقبة العظمى {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} (71) سورة مريم، العقبة العظمى مجاوزة النار، إذ ليس أحد إلا سيجوز فوق جهنم، لا يدخل أحد الجنة إلا بعد أن يمر فوق الصراط المضروب على جهنم، وكل بسرعة بحسب أعماله.
قال: "أعتق جارية له سوداء يقال لها: لؤلؤة، ابتغاء وجه الله وجواز العقبة العظمى، فإنه لا سبيل لي عليها.." يعني: بعد العتق، "..لا سبيل لي على الجارية إلا سبيل الولاء.."، وهي علاقة شرعية خاصة جعلها الله بين المعتِق والمعتَق لفضل المعتِق، وهو من ثواب المعتِق المعجَّل، يرث بها المعتِق من المعتَق إذا مات المعتَق وليس له ورثة.
قال: "فإنه لا سبيل لي عليها إلا سبيل الولاء والمنة لله الواحد القهار".. انتهى بيان العتق.
قال الأصمعي: فحدثت بها الرشيد، فأمر أن يشترى له ألف نسمة ويعتقون ويكتب لهم هذا الكتاب.
في إحدى معارك صلاح الدين الأيوبي مع النصارى استطاع أحد علماء المسلمين اختراع نوع من أنواع العقاقير التي تقوي عمل النار، وكانوا يستعملون النفاطات والمنجنيقات في رمي الشعلة الملتهبة على الأبراج، فكان من المسلمين من ابتكر طريقة لتقوية عمل النار فاستخدمت ونجحت نجاحاً باهراً، وفرح بها المسلمون، فلما أراد صلاح الدين مكافأته، قال هذا الرجل العالم: إنما عملته لله تعالى ولا أريد الجزاء إلا منه، [الكامل في تاريخ ابن الأثير].
قال ابن القيم: إن كل عمل لابد له من مبدأ وغاية فلا يكون العمل طاعة ولا قربة حتى يكون مصدره عن الإيمان فيكون الباعث عليه هو الإيمان المحض لا العادة، ولا الهوى، ولا طلب المحمدة والجاه، بل لابد أن يكون مبدؤه محض الإيمان، وغايته ثواب الله، وابتغاء مرضاته.
فاحتساب الأجر والثواب مهم، وتنقية النية مهمة؛ لأن النفس إذا استشعرت ثواب الله تعالى واحتسبت الأجر عنده اجتهدت.
عمل الصالحات لمقصد دنيوي
كثير من الناس اليوم يعملون أعمالاً يمكن أن ينالوا بها أجراً في الآخرة ولكن يدمرون ذلك الأجر بالاقتصار على القصد الدنيوي، فترى الواحد إذا اشترى طعاماً لأهله من البقالة لا ينوي شيئاً فيذهب الأجر مع أنه كان يمكن أن ينوي احتساب هذا الإنفاق عليهم الذي أوجبه الله فيؤجر عليه.
وحتى المهندس الذي يعمل في الإنشاءات العامة في المرافق العامة مثلاً يمكن أن يحتسب في أجره التوسعة على المسلمين، وتيسير الطرق للمسلمين، واستعمال الجسور لمدة أطول لمصلحة المسلمين، ونحو ذلك من النيات الصالحة التي يؤجر عليها ولكن كثير منهم لا يتذكرون هذا ولا يحتسبونه، وإذا عملوا فعلى مبدأ الكفار؛ لأنه أتقن، أجود، أحسن، أفضل، يعني في الدنيا، هذه تأتي بأموال أكثر، وهذه تأتي بزبائن أكثر، وهذه فيها مردود أكثر، وأما الآخرة فما لها ذكر، مع أن النفس لابد أن تستشعر الثواب لتتحفز، قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} (21) سورة الحديد.
كان الاحتساب شعار الصحابة والسلف، وقد قال عمر: أيها الناس! احتسبوا أعمالكم فإن من احتسب عمله كتب له أجر عمله وأجر حسبته، وهكذا قال الصحابي الآخر: أما أنا فأنام وأقوم وأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.
فطلب الثواب في الراحة لأجل الاستعانة على العبادة، ومن ابتغى في أعماله وجه الله والدار الآخرة صارت في الميزان من الحسنات، ومن ابتغى بها فرح الدنيا وبهجتها صارت هباءً منثوراً
وخذ لك زادين من سيرة وكن في الطريق عفيف الخطى وكن رجلاً إذا أتوا بعده
|
|
ومن عمل صالح يدخر شريف السماع كريم النظر يقولون مرَّ وهذا الأثر
|
يصلي الإنسان لله لا لأجل التمارين الرياضية، ويصوم لله وللثواب وباب الريان وليس لأجل تخفيف الوزن والحمية، ويقوم لصلاة الفجر لأجل الحسنات وحفظ الله له من النار وحفظه من الشرور وليس لأجل غاز الأوزون، وكذلك ينبغي أن يفعل بنيات صالحة في الأكل والشرب والنكاح والنوم والوطء.
من الناس من يأتي المسجد ليلتقي بأصحابه، ومنهم من يأتي المسجد ليصلي، ومنهم من يأتي المسجد ليشحذ، أي أن قصده في الإتيان للمسجد أن يقوم بعد الصلاة ويقول: آبائي الكرام، قدَّر الله، وحصل حادث وانقلبنا، وما وجدنا، ويكذبون أيضاً.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أتى المسجد لشيء فهو حظه)) [رواه أبو داود وهو حديث حسن].
قال العلماء عن هذا الحديث: فيه تنبيه على تصحيح النية في إتيان المسجد؛ لئلا يكون مختلطاً بغرض دنيوي كالتمشية والمصاحبة مع الأصحاب.
بعض الناس يأتي إلى المسجد مشياً فتقول له: لماذا لا تذهب بالسيارة؟ فيقول: المشي صحي! لكن هل نوى أن كل خطوة يُرفع بها درجة وتكتب له بها حسنة وتحط بها عنه سيئة؟
الشيء الصحي يأتي تبعاً، الشيء الصحي ليس مقصداً في العمل الصالح، لكن نحن تضخمت الدنيا عندنا مما جاء عن أهل الدنيا من كثرة تفكيرهم واجتهادهم في استخراج واستنباط والحصول على الفوائد الدنيوية للأعمال، ولذلك تراه يمشي إلى المسجد؛ لأجل حفظ الصحة، ولو جعل نيته أن كل خطوة يرفع بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، يكتب له بها حسنة لحصَّل أجر الآخرة، وهذا الذي في الدنيا سيأتي تبعاً.
قال في شرح الحديث في عون المعبود: في هذا الحديث تنبيه على تصحيح النية في إتيان المسجد؛ لئلا يكون مختلطاً بغرض دنيوي كالتمشية والمصاحبة مع الأصحاب، بل ينوي الاعتكاف والعبادة وزيارة بيت الله، واستفادة علم ونحوها، فمن قصد المسجد لعبادة حصل عليها، ومن أتى لغرض دنيوي فهو ونيته.
قال بعض السلف: مثل الدنيا والآخرة مثل الأمة وسيدتها، فمن نكح الأمة لم يملك سيدتها، ومن نكح السيدة ملك الأمة والسيدة، فمن ابتغى الآخرة أعطي الدنيا والآخرة.
كان السلف يجتهدون في تنقية النية، وقد قيل لنافع بن جبير بن مطعم: ألا تشهد الجنازة؟ قال: كما أنت حتى أنوي، ففكر هنيه ثم قال: امضِ، و بلغ الأمر ببعضهم أنه يتوقف في العمل حتى تصحَّ نيته!!
وأبو الحسين النوري رأى زورقاً فيه خمر، فقال: ما هذا ولمن هذا؟ فقال له الملاح: هذا خمر للمعتضد، فصعد أبو الحسين فكسرها كلها إلا واحداً تركه، فجاء جنود المعتضد فأخذوه وأوقفوه بين يدي المعتضد، فقال له: ما الذي حملك على ما فعلت؟ قال: شفقة عليك، ولدفع الضرر عنك، قال: ولأي شيء تركت منها واحداً لم تكسره؟ قال: لأني إنما أقدمت عليها فكسرتها إجلالاً لله تعالى فلم أبالي أحداً، فلما انتهيت إلى هذا الأخير دخل نفسي إعجاب من قبيل أني أقدمت على مثلك، يعني: شعرت أن عندي جرأة فتركته، فقال له المعتضد: اذهب فقد أطلقت يدك فغيِّر ما أحببت أن تغيره من المنكر.
ابن نجيد النيسابوري احتاج شيخه أبو عثمان الحيري مالاً لبعض ثغور المسلمين، فجاءه ابن نجيد بألفي درهم، لتحصين سور البلد ضد الكفار، فدعا له شيخه ثم مدحه أمام المجلس، فقام ابن نجيد –المتبرع- وقال إنما حملته من مال أمي وهي كارهة فينبغي أن ترده لترضى، فرد أبو عثمان كيس المال، فلما جنَّ الليل جاء ابن نجيد بالكيس والتمس من شيخه ستر ذلك، يعني أنه يريدها بلا مدح!
عباد الله!:
نرى اليوم من يصوم لتخفيف الوزن والصحة، وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((من صام يوماً في سبيل الله بعّد الله وجه عن النار سبعين خريفاً))، وهذا يستعمل السواك لأجل الجراثيم الفموية وينسى التماس السنة وابتغاء السنة، ونية السنة، ومتابعة النبي -عليه الصلاة والسلام-.
وتُعلم النساء المتأخرات في الزواج في بعض مواقع الإنترنت قراءة سورة البقرة ابتغاء النكاح، وهذه كارثة أخرى؛ لأنها تقرأ سورة البقرة لا لأجل الحرف بحسنة والحسنة بعشر حسنات، وإنما لأجل الزوج.
يقولون لها: اقرئي سورة البقرة إذا كنت عانساً وخفت أن لا يأتيك زوجك، اقرئي سورة كذا لأجل الحمل إذا كانت لا تحمل، إذا أردت الولد اقرئي سورة كذا للولد، وهكذا ابتدعوا أدعية لمن تأخرت عن الزواج.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: لابد من التنبيه على أن بعض الناس عندما يتكلمون على فوئد العبادات يحولونها إلى فوائد دنيوية، فمثلاً يقولون: في الصلاة رياضة وإفادة الأعصاب، وفي الصيام فائدة إزالة الفضلات وترتيب الوجبات، والمفروض أن لا تجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل؛ لأن ذلك يؤدي إلى إضعاف الإخلاص والغفلة عن إرادة الآخرة.
ولذلك بين الله تعالى في كتابه حكمة الصوم قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ} (183) سورة البقرة، تصحّون؟ تخفّون؟ {تَتَّقُونَ} فهذه هي الحكمة الأساسية من العبادة، والآخر يحصل تبعاً، هل تخشى أن لا يحصل؟ هل تخشى أن تحرم من مزايا الصيام الصحية إذا صمت؟ ستحصل لكن إذا صمت فابتغ وجه الله لا الأشياء الدنيوية.
ورد في بعض الأحاديث أن الصدقة تداوي الأمراض كقوله –عليه الصلاة والسلام-: ((داووا مرضاكم بالصدقة)) لكن لا على أن يكون هذا هو القصد من العمل، وللأسف صار بعض الناس اليوم يسمعون ((داووا مرضاكم بالصدقة)) فيتصدقون لأجل الشفاء ليس إلا، وربما لا يفكر أصلاً في الدار الآخرة.
هذه القضية حولت العبادات إلى عادات، أو حولت العبادات إلى علاجات، وفوتت ثواباً كثيراً على الناس، وتعلقوا بالدنيا وصار الشغف بها، وصاروا لا يهتمون بالحسنات التي لا يذكر لها فوائد دنيوية، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (162) سورة الأنعام.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ((من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأتيه من الدنيا إلا ما قدر له))، والإنسان قد يُعطى أشياء من التعويضات في الدنيا عن صدقة تصدق بها أو عمل عمله بدون أن يقصد هذا المقابل الدنيوي، فإذا حصل فهذا من فضل الله ولا يمتنع عن أخذه.
عن ابن الساعد المالكي قال: استعملني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه، جمع الزكاة وتعب في ذلك، وأحصاه وحسبه وأتى به وحرسه، قال: أمر لي -يعني عمر- بعماله يعني مقابل، فقلت: إنما عملت لله وأجري على الله، فقال: خذ ما أعطيت فإني عملت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعمَّلني، يعني: أعطاني أجرة عملي، فقلت مثل قولك، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأل فكل وتصدق)) [رواه مسلم].
إذن: إذا حصل من غير أن ينويه ومن غير أن يسأله إذا أخذه فلا حرج عليه أبداً.
موسى -عليه السلام- لما عمل الخير وسقى للمرأتين وأعان ذلك الرجل الكبير في السن على غنمه، ودعا ربه، {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} (25) سورة القصص، لما سقى موسى لهما هل قصد مقابلاً؟ لا، وهل سأل؟ لا، ولذلك لما حصل لم يكن هناك مانع أن يناله، فذهب معها، وحصل ما حصل من الزواج، وحصل على وظيفة ورعى الغنم، وكان ذلك له مصدر رزق، وهكذا يغني الله أولياءه.
إذن: يا عباد الله لابد أن نحرص على ابتغاء وجه الله بالأعمال الصالحة، قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} (15) سورة هود، لكن ماذا له في الآخرة؟ لا أجر ولا شيء وإنما له النار، {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (20) سورة الشورى.
إذن: ليس له شيء على عمله إذا قصد الدنيا، ولذلك فإن الإنسان يجتهد أن يجعل عمله لله ويطلب الدار الآخرة وما عند الله، وخصوصاً في هذه العبادات، ويلتزم الشريعة، ويلحظ الآخرة بقلبه ويقبل على ربه، يرجو الثواب يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم اجعل عملنا خالصاً لوجهك يا رب العالمين، واجعله صالحاً يا أرحم الراحمين، ولا تجعل لأحد غيرك فيه حظاً ولا نصيبا إنك أكرم الأكرمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله أكبر، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يكن له شريك في الملك، ولم يتخذ ولياً وهو الولي الحميد -سبحانه وتعالى-، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله ورحمته، البشير والنذير والسراج المنير، بعثه الله بالحق بين يدي الساعة، فبلغ الأمانة، وأدى الرسالة، فصلوات الله وسلامه عليه، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
عباد الله:
أحوال العصاة يوم القيامة
نرجو اليوم الآخر ونخشى اليوم الآخر، ونتطلع إلى اليوم الآخر {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} (88) سورة الشعراء، يوم يجازي الله العصاة على معاصيهم فيحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر، يعني: صغار النمل، يطؤهم الناس بأرجلهم، قال -عليه الصلاة والسلام-: ((في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان)) [رواه الترمذي، وهو حديث حسن].
والعاق لوالديه لا ينظر الله إليه يوم القيامة، يعني: لا ينظر إليه نظر رحمة.
((ومن لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة)) [رواه أبو داود وهو حديث حسن] فكما أراد الارتفاع بهذا الثوب والافتخار على الناس وأنه ليس عند أحد مثله وأنه يشتهر به ويشيرون إليه بالأصابع يذله الله يوم القيامة.
((ومن كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)) [حديث صحيح] يعني: يأتي يوم القيامة غير مستوِ الطرفين بل يكون أحدهما كالراجح وزناً، هذا أثقل من هذا كعدم عدله بين زوجتيه في الدنيا.
((والنائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)) [رواه مسلم]، والقطران هو الزفت المحمى الحار، والنحاس المذاب، وقوله: ((ودرع من جرب)) أي لها درع من جرب منتن، فكما لبست السواد واتشحت به وناحت وصاحت اعتراضاً على القضاء ولم تسلم لأمر الله فكذلك يفعل الله بها يوم الدين.
والذين يصورون ذوات الأرواح يقال لهم يوم القيامة ((أحيوا ما خلقتم)) أي أنتم شكلتموها وصورتموها فابعثوا فيها الروح؟ فلا يستطيعون؛ لأنهم يكلَّفون بالمحال وفي هذا تعذيب لهم.
((ومن سأل الناس تكثراً وعنده ما يغنيه يأتي يوم القيامة وليس في وجه مزعة لحم)) يعني ولا قطعة لحم، [والحديث في البخاري] أي يعذبه الله حتى يسقط لحمه، وبهذا تكون العقوبة في موضع الجناية؛ لأنه لما أذل وجهه بالسؤال في الدنيا وعنده ما يغنيه بعثه الله ووجهه عظم ليس فيه لحم ويعرف بذلك يوم القيامة، هذا هو حال الشحاذ الكذاب.
والغادر يوم القيامة يفضحه الله براية طويلة يراها الأولون والآخرون، عند إسته، يعني في المكان القبيح، قال –عليه الصلاة والسلام- ((يرفع لكل غادر لواء)) يعني: يعرف به، إذ يمر الناس في المحشر فيرون الألوية عند أهل الغدر والمكر والخديعة، فيقال: ألا هذه غدرة فلان بن فلان، والغدر هو المكر والخداع.
ومنهم من يحمل جنايته ليفتضح بها أمام الخلق كالذي يسرق من الأموال العامة، ويأخذ من أموال المسلمين، قال الله تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (161) سورة آل عمران، يعني يحمله على رقبته من أراضي، غنم، بقر، إبل، ذهب، فضة، مزرعة، شجر، كل ذلك يحمله على ظهره، {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (161) سورة آل عمران.
وأما أهل الطاعات والأعمال الصالحة فيكرمهم ربهم أيّما تكريم، فالإمام العادل في ظل العرش، وهذا الشاب الذي خالف هواه والشهوة والأشياء المحرمة، وترك العلاقات المحرمة وأعرض عنها، وترك هذه المرئيات والمسموعات المحرمة، هذا شاب نشأ في طاعة الله فهو في ظل العرش.
وهذا يأتي المسجد مبكراً ويحزن إذا خرج من المسجد وفارق المسجد؛ لأن قلبه معلق بالمسجد، وهذان تحابا في الله، ما جمعتهما مصلحة دنيوية، بل يزور أحدهما الآخر لله، وهذا الذي تعرض إلى إغراء امرأة ذات منصب وجمال فدعته هي وكسرت الحاجز النفسي هلمّ، فقال: إني أخاف الله رب العالمين، وأبى، وهذا المتصدق في الخفاء، وهذا الباكي من خشية الله تعظيماً وتوقيراً وإجلالاً لله، هؤلاء كلهم في ظل العرش.
أولئك يفضحون، وهؤلاء ينعمون، أولئك يعذبون، وهؤلاء يكرمون، نسأل الله أن يجعلنا ممن يكرمون يوم الدين.
اللهم ارزقنا الجنة بمنّك وفضلك يا رب العالمين، نسألك الفردوس الأعلى، قنا عذاب النار، واصرف عنا عذاب جهنم، واعتق رقابنا منها.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، ارزقنا فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، آمنا في الأوطان والدور وأصلح الأئمة ولاة الأمور، واغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات يا سميع الدعوات.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.