مجلس للوجهاء وأصحاب الأموال في الحي

مجلس للوجهاء وأصحاب الأموال في الحي

 

يبقى المسجد في الحي منارة خير، وسبيل هداية، فهو مكان تلين فيه القلوب بذكر الله جل في علاه، وهو المكان الذي فيه الهداية للعقول، والراحة للأرواح، والأمن للنفوس.

وكما أن المسجد مكان لهداية الضال، وتعليم الجاهل، وتزكية النفوس …إلخ فهو أيضاً مكان للمشاركة فيما يناسب من احتياجات المجتمع مما يمكن أن تكون في المسجد، وهكذا لابد أن تكون المساجد.

وهنا مقترح يجدد نشاط المسجد، ويفعل أهله ممن يصلون فيه، ويلتقون بين جوانبه، وهذا المقترح، وهذه الفكرة هي (إنشاء مجلس للوجهاء وأصحاب الأموال في الحي)، وربما قال قائل: لم اخترت هاتين الشريحتين من المجتمع، ولم تختر غيرهما؟

فالجواب هو أن هاتين الشريحتين لهما دور فعال في المجتمع، فهم أصحاب نفوذ، وأصحاب كلمة مسموعة، ورأي مقبول، يقول الله عز وجل عن عيسى عليه السلام: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}(آل عمران:45) قال العلامة السعدي رحمه الله: "أي: له الوجاهة العظيمة في الدنيا، جعله الله أحد أولي العزم من المرسلين، أصحاب الشرائع الكبار والأتباع، ونشر الله له من الذكر ما ملأ ما بين المشرق والمغرب، وفي الآخرة وجيهاً عند الله يشفع أسوة إخوانه من النبيين والمرسلين، ويظهر فضله على أكثر العالمين"1.

وقد جاء في الأزمنة الماضية ما يؤكد ذلك، فقد كانت الوجاهة أمر معمول به في الجاهلية، واستفاد من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما عاد من الطائف، فأراد أن يدخل مكة الكرمة، فما زال يبحث عمن يجيره حتى أجاره المطعم بن عدي وهو كافر، وهذا الخبر ذكره ابن هشام رحمه الله تعالى فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف، ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه، ونصرته؛ صار إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف والحليف لا يجير، فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدي فأجابه إلى ذلك، ثم تسلح المطعم وأهل بيته، وخرجوا حتى أتوا المسجد، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت، وصلى عنده، ثم انصرف إلى منزله"2.

وذكر له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الجميل بعد معركة بدر فقد روى محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: ((لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له)) رواه البخاري (2906).

وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يجيره أبو الدغنة سيد الأحابيش كما روت عائشة رضي الله عنها ذلك فقالت: "لما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً قبل الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يَخرُج ولا يُخرَج؛ فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع، فاعبد ربك ببلادك، فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر، فطاف في أشراف كفار قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرُج مثله ولا يُخرَج؛ أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وأمَّنوا أبا بكر…" رواه البخاري (2298).

وهاتان الحادثتان التي ظهرت فيها أهمية الوجاهة كانت الوجاهة فيهما لرجلين كافرين لم يسلما بعد، فكيف إذا كانت لرجلين مسلمين يعرفان أهمية التعاون مع المسلمين، وأن في ذلك أجر عظيم من الله عز وجل.

وإن أهل الأموال الصالحين لهم دور كبير جداً في نصرة هذا الدين العظيم، فكم حث الله تعالى على الإنفاق في سبيله، وجعل الإنفاق في سبيله أول صفة من صفات المتقين فقال جل شأنه: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء …الآية}(آل عمران:133-134)، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ينفق كل ماله في سبيل الله تعالى لما كان يعرف من أهمية المال في نصرة الدين يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك عندي مالاً، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيت لأهلك؟)) قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: ((يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟)) قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: والله لا أسبقه إلى شيء أبداً"3، ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم على بذل أبي بكر رضي الله عنه، ونصرته للدين بماله بما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يداً يكافيه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن صاحبكم خليل الله))4، وهذا عثمان رضي الله عنه يلبي حاجة ماسة ألمَّت بالمسلمين فيحفر بئر رومة، ويجهز جيش العسرة؛ نصرةً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم قال الإمام البخاري رحمه الله: "باب مناقب عثمان بن عفان أبي عمرو القرشي رضي الله عنه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يحفر بئر رومة فله الجنة)) فحفرها عثمان، وقال: ((من جهز جيش العسرة فله الجنة)) فجهزه عثمان" رواه البخاري (3/1351).

والمجلس الذي نقترح أن يديره المسجد يكون أفراده من أهل الحي ممن عرفوا بالوجاهة، أو المال، وهو مجلس خيري يخدم أهل الحي، ويعالج قضاياهم الاجتماعية والاقتصادية وغيرها.

وقبل أن تذكر أعمال هذا المجلس نذكر كيفية تكوين هذا المجلس ومن هم أعضاؤه، وكيفية إدارته؟

– أما أعضاؤه فهم كما هو واضح من اسم المجلس (أهل الوجاهة وأهل الأموال).

– ويكون اختيار الأعضاء عن طريق استقراء لرأي جميع أهالي الحي، والنظر في أحوالهم الاجتماعية، ومستواهم المعيشي، ومن ثم فلا يترك أحد يتصف بالصفات المطلوبة إلا تمت إضافته إلى المجلس.

– يكون الاجتماع في أحد مرفقات المسجد، أو في بيت الإمام، أو أي مكان مناسب في الحي يمكن أن يكون الاجتماع فيه.

– لابد أن يشارك إمام المسجد في المجلس من حيث تكوينه فيكون مديراً، أو مشرفاً عاماً، أو غير ذلك من الأعمال المؤثرة في المجلس.

– يسمى المجلس باسم جميل، ويذكر له شعار أجمل.

– يعلن عن المجلس رسمياً في المسجد.

– يكون للمجلس صندوق مالي خاص تصرف على احتياجاته.

– يكون للمجلس صندوق في المسجد يختص بشكاوى، ومقترحات أهل الحي.

أعمال هذا المجلس:

– النظر في مشكلات الحي، وبخاصة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية؛ فالاجتماعية تتمثل فيما تحصل من قضايا شخصية، وأسرية، وعائلية، وغير ذلك.

والمشكلات الاقتصادية المادية التي فيها يتم معالجة مشكلة الفقر الموجودة في الحي فيحصر فقراء الحي، وتكون لهم كفالة مالية كل بحسبه، فيعطى اليتيم، وتكرم الأرملة، وتسد حاجة الفقير.

– ويا حبذا لو تدخل قضية البطالة التي قد يعاني منها الكثير من أهل الحي، فينظر في المجلس من بإمكانه أن يشارك في حل هذه المشكلة بإدخال عاملين من نفس الحي في شركته، أو مصنعة، أو متجره، أو يعرف من يحتاج إلى يد عاملة، فيكون وسيطاً في الخير.

هذه بعض الأفكار، وبعض المقترحات في هذا الموضوع.

والحمد لله رب العالمين.


1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/131) للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، دار النشر: مؤسسة الرسالة – بيروت 1421هـ- 2000م.

2 السيرة النبوية لابن هشام (2/225)، دار النشر: دار الجيل – بيروت – 1411، الطبعة الأولى، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد.

3 رواه الترمذي (3675)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (3675).

4 رواه الترمذي (3661)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3661).