الربا محق للبركة وفساد للأوطان

الربا محق للبركة وفساد للأوطان

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً، وبعد:

 فنقف في الجمل التالية مع تفسير قول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (275-277) سورة البقرة.

مقدمة:

أخي: انظر إلى مثل هذا التهديد والتصوير المرعب الذي وصف به المرابين في هذه الآيات, قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (275) سورة البقرة. ثم تتبع هذه الآية آية فيها الوعيد بالمحق لمال الربا وتسمية المرابي: بـ"الكَفَّار الأثيم" على صيغة المبالغة؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (276) سورة البقرة.

ثم وجّه القرآن خطاباً مباشراً للمؤمنين يأمرهم بترك ما بقي من آثار هذه المعاملة، وعقَّبه بترهيب تتزلزل منه القلوب الخاشعة؛ حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} (278-279) سورة البقرة.

روي أن رجلاً أتى إلى مالك بن أنس -رحمه الله- فقال: يا أبا عبد الله! رأيت رجلاً سكران يتعاقر، يريد أن يأخذ القمر بيده، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر, فقال: ارجع حتى أتفكر في مسألتك, فأتاه من الغد، فقال: امرأتك طالق؛ إني تصفحت كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فلم أرَ شيئاً أشرَّ من الربا؛ لأن الله تعالى أذن فيه بالحرب1. كما روي عن أبي حنيفة أنه كان يقول في قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (131) سورة آل عمران, في خطابه للمرابين: هذه أخوف آية في القرآن؛ حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتركوا هذه المعاملة2.

تفسير الآيات:

قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (275) سورة البقرة.

لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات المخرجين الزكوات المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات, شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات, فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم فقال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}: أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له وذلك أنه يقوم قياماً منكراً.

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق"3.

قال ابن عثيمين –رحمه الله- "قال شيخنا -السعدي رحمه الله-: "فكما كانوا في الدنيا في طلب المكاسب الخبيثة كالمجانين, عوقبوا في البرزخ والقيامة بأنهم لا يقومون من قبورهم -أو يوم بعثهم ونشورهم- إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس, أي من الجنون والصرع" ولقد صدق -رحمه الله تعالى- فإن المرابين كالمجانين لا يعون موعظةً ولا يرعوون عن معصية, نسأل الله لنا ولهم الهداية"4.

وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}: أي: إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه وليس هذا قياساً منهم للربا على البيع؛ لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن, ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع وإنما قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}: أي هو نظيره فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع, أي هذا مثل هذا وقد أحل هذا وحرم هذا.

وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}: يحتمل أن يكون من تمام الكلام رداً عليهم أي على ما قالوه من الاعتراض, مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكماً وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون, وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها وما ينفع عباده فيبيحه لهم وما يضرهم ينهاهم عنه وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل ولهذا قال:{فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ}: أي: من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة لقوله: {عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف} (95) سورة المائدة, وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة: (وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ, وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ)5, فلم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف كما قال تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ} (275) سورة البقرة, قال سعيد بن جبير والسُّدِّي: فله ما سلف: ما كان أكل من الربا قبل التحريم.

وقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ}: أي إلى الربا, ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه فقد استوجب العقوبة وقامت عليه الحجة ولهذا قال: {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}6.

وفي هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس, وقد روى أبو داود والنسائي عَنْ أَبِي الْيَسَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَدْعُو: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَدْمِ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ التَّرَدِّي, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْغَرَقِ وَالْحَرَقِ وَالْهَرَمِ, وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ, وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا)7. والمس: الجنون، يقال: مس الرجل وألس، فهو ممسوس ومألوس إذا كان مجنوناً، وذلك علامة الربا في الآخرة.8

وقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}: يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا، أي: يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يَحْرمَه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة؛ كما قال تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (100) سورة المائدة, وقال تعالى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} (37) سورة الأنفال, وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} (39) سورة الروم. وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود.

وقوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} قُرئ بضم الياء والتخفيف، من "ربا الشيء يربو" و"أرباه يربيه"9, والمعنى أنه يبارك في المال ألذي أخرجت منه، ويزيد فيه، ويضاعف أجرها أضعافاً كثيرة.

وقوله: {كَفَّارٍ أَثِيمٍ}: الكفار: شديد الكفر، يكفر بكل حق وعدل وخير، والأثيم: المنغمس في الذنوب لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا ارتكابها.

ويقول الشيخ أبو بكر الجزائري –أثابه الله-: في خلاصة تفسير الآيتين: "لما حث الله على الصدقات وواعد عليها بعظيم الأجر ومضاعفة الثواب ذكر المرابين الذين يضاعفون مكاسبهم المالية بالربا وهم بذلك يسدُّون طرق البر، ويصدون عن سبيل المعروف فبدل أن ينموا أموالهم بالصدقات نموها بالربويات، فذكر تعالى حالهم عند القيام من قبورهم وهم يقومون، ويقعدون، ويغفون ويُصرعون، حالهم حال من يصرع في الدنيا بمس الجنون، علامة يعرفون بها يوم القيامة كما يعرفون بانتفاخ بطونهم وكأنها خيمة مضروبة بين أيديهم قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}.

وذكر تعالى سبب هذه النقمة عليهم فقال {ذَلِكَ}: أي أصابهم ذلك الخزي والعذاب بأنهم ردّوا علينا حكمنا بتحريم الربا وقالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}، إذ الربا الزيادة في نهاية الأجل، والبيع في أوله، ورد تعالى عليهم فقال: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}: فما دام قد حرم الربا فلا معنى للاعتراض، ونسوا أن الزيادة في البيع هي في قيمة سلعة تغلو وترخص، وهي جارية على قانون الإِذن في التجارة، وأما الزيادة في آخر البيع فهي زيادة في الوقت فقط.

ثم قال تعالى مبيّناً لعباده سبيل النجاة محذراً من طريق الهلاك: {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ} وهي تحريمه تعالى للربا ونهيه عنه (فانتهى) عنه (فله ما سلف) قبل معرفته للتحريم، أو قبل توبته منه، (وأمرُه) بعد ذلك (إلى الله) إن شاء ثبته على التوبة فنجاه، وإن شاء خذله لسوء عمله، وفساد نيّته فأهلكه وأرداه, وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (275) سورة البقرة10.

من صور الربا:

لقد بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته الربا أين يكون وكيف يكون بياناً شافياً واضحاً إلا لمن به مرض في القلب أو عمى في البصيرة, فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ)11, وفي لفظ له: (فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ)12.

ولقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الأصناف الستة إذا بيع الشيء منها بجنسه مثل أن يباع الذهب بالذهب فلا بد فيه من شرطين اثنين: أحدهما: أن يتساويا في الوزن, والثاني: أن يتقابض الطرفان في مجلس العقد, فلا يتفرقا وفي ذمة أحدهما شيء للآخر, فلو باع شخص ذهبًا بذهب يزيد عليه وزنًا ولو زيادة يسيرة فهو رباً حرام, والبيع باطل, ولو باع ذهبًا بذهب مثله في الوزن ولكن تفرقا قبل القبض فهو ربا حرام, والبيع باطل.

وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الأصناف الستة إذا بيع أحدها بجنس آخر فلا بأس أن يكون أحدهما أكثر من الآخر ولكن لا بد من التقابض من الطرفين في مجلس العقد, بحيث لا يتفرقان وفي ذمة أحدهما للآخر شيء, فلو باع ذهبًا بفضة وتفرقا قبل القبض فهو رباً حرام, والبيع باطل.

ولقد كان التعامل سابقًا بالذهب والفضة وأصبح التعامل الآن بالأوراق النقدية بدلًا عنها, والبدل له حكم المبدل, فلا يجوز التفرق قبل القبض إذا أبدلت أوراقًا نقديةً بجنسها أو بغير جنسها, فلو قلت لشخص خذ هذه الورقة ذات المئة اصرفها لي بورقتين ذواتى خمسين, فإنه يجب أن تسلم وتستلم قبل التفرق, فإن تأخر القبض من الطرفين أو أحدهما فقد وقعا في الربا.

ولقد صار من المعلوم عند الناس أنك لو أخذت من شخص مائة ريال من النقد الورقي بمائة وعشرة مؤجلة إلى سنة أو أقل أو أكثر لكان ذلك ربًا, وهذا حق؛ فإن هذه المعاملة من الربا الجامع بين ربا الفضل وربا النسيئة بين الربا المقصود والذريعة, ولكن من المؤسف أن كثيراً من المسلمين صاروا يتحيلون على هذا الربا بأنواع من الحيل, والحيلة أن يتوصل الشخص إلى الشيء المحرم بشيء ظاهره الحل فيستحل محارم الله بأدنى الحيل.

إن الحيلة على محارم الله تعالى خداع ومكر, إنها خداع ومكر يخادع بها العبد ربه, ويخادع بها من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, أيظن هذا المخادع الذي لاذ بخديعته أن أمره سيخفى على الله؟! أفلا يقرأ قول الله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} (235) سورة البقرة, أليس في نيته وقرارة نفسه أنه يريد ما حرم الله, ولكن يكسوه بثوب من الخداع والمكر لا ينطلي إلا على مثله ممن جعل الله على بصره غشاوة13.

اللهم اجعلنا ممن يهتدي بهدي كتابك العظيم, وسنة نبيك محمد الكريم, اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وجنبنا الزلل في القول والعمل, وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد, وآله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين.

 


1 مجلة البيان العدد 200 ص14 ربيع الآخر 1425هـ, راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (ج 3 / ص 240).

2 المصدر السابق نقلاً عن نظرية الربا المحرم في الشريعة الإسلامية، ص 187لإبراهيم زكي الدين.

3 رواه ابن أبي حاتم.

4 من كتابه الضياء اللامع (ج 3/ ص 222).

5 رواه مسلم (1218).

6 تفسير ابن كثير (ج1/ ص 436)

7 رواه أبو داود (1552) والنسائي (5531) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1282).

8 تفسير القرطبي (ج 3 / ص 330).

9  تفسير ابن كثير (ج 1 / ص 439).

10 أيسر التفاسير للجزائري (ج 1 / ص 140).

11 رواه مسلم (1584)

12 صحيح مسلم (1587).

13 الضياء اللامع من الخطب الجوامع  لابن عثيمين (ج 3 / ص 224).