السجود المجرد

السجود المجرد

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

أيها المسلم الكريم: ورد في النصوص الشرعية المقدسة الحث على السجود للرب جل وعلا، واعتبر الشرع ذلك من أعظم القربات، وأشرف الطاعات عند الله تعالى؛ لأن السجود يكون به وضع أعز ما في جسم الإنسان وأعلاه (وهي الناصية) لله تعالى، وفيه إرغام للأنف بين يدي الله سبحانه، فيكون فاعله قد أعلن كمال خضوعه واستسلامه وذله لربه جل جلاله.

ومن تلك النصوص الشرعية التي أشادت بهذه العبادة العظيمة قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}1، فإن في معنى الآية أن السجود يقربك من الله تعالى، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد))2، وعن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: ((سل)) فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: ((أو غير ذلك)) قلت: هو ذاك، قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود))3، وجاء عن معدان بن أبى طلحة اليعمري قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، (أو قال: قلت بأحب الأعمال إلى الله)، فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة)) قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء فسألته، فقال لي مثل ما قال لي ثوبان"4.

ورُبَّ متسائل يسأل عند قراءة مثل هذه النصوص: هل يجوز لي أن أسجد لله تعالى سجوداً مجرداً (أي: مطلقاً لا سجود صلاة، ولا شكر، ولا تلاوة)، وهل يعتبر ذلك عبادة أتقرب بها لربي؟

فنقول: قد اختلف فقهاء الإسلام على قولين في هذه المسألة: منهم من سوَّغه، ومنهم من عارضه وأنكره، بل منهم من حرَّمه، وهنا شيء من التفصيل في المسألة:

يقول ابن تيمية رحمه الله: "ومن سوَّغه يقول: هو خضوع لله، والسجود هو الخضوع قال تعالى: {وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ}5، قال أهل اللغة: السجود في اللغة هو الخضوع.

وقال غير واحد من المفسرين: أُمروا أن يدخلوا ركعاً منحنين، فإن الدخول مع وضع الجبهة على الأرض لا يمكن وقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ}6، وقال تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}7، ومعلوم أن سجود كل شيء بحسبه ليس سجود هذه المخلوقات وضع جباهها على الأرض، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر لما غربت الشمس: ((إنها تذهب فتسجد تحت العرش)) رواه البخاري ومسلم8، فعُلم أن السجود اسم جنس، وهو كمال الخضوع لله، وأعزُّ ما في الإنسان وجهه، فوضعُه على الأرض لله غاية خضوعه ببدنه وهو غاية ما يقدر عليه من ذلك؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد))9، وقال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}10.

فصار من جنس أذكار الصلاة التي تشرع خارج الصلاة: كالتسبيح، والتحميد، والتكبير، والتهليل، وقراءة القرآن، وكل ذلك يستحب له الطهارة، ويجوز للمحدث فعل ذلك بخلاف ما لا يفعل إلا في الصلاة: كالركوع فإن هذا لا يكون إلا جزء من الصلاة، وأفضل أفعال الصلاة السجود، وأفضل أقوالها القراءة، وكلاهما مشروع في غير الصلاة…"11.

وقال الإمام المناوي رحمه الله بعد أن ذكر تحريمه لهذا السجود المجرد: "لكن قال المحب الطبري الشافعي: الجواز أولى، بل لا يبعد ندبه فإنها عبادة مشروعة استقلالاً، فإذا جاز التقرب بها بسبب جاز بغيره كالركعة وبه فارقت الركوع، فإنه لم يشرع استقلالاً مطلقاً، قال: والحديث يقتضي كل سجود، وحمله على سجود في صلاة تخصيص على خلاف الظاهر…".12

وأما المانعون لهذا السجود المطلق فقد فسروا تلك النصوص الواردة في فضل السجود بأنها تعني السجود الذي هو ركن في الصلاة، وإنما خصص لفضله على بقية الأركان قال الإمام المناوي رحمه الله في تفسير حديث ((فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود)) "أي بإطالته في الصلاة"13.

"كثرة الصلاة، وليس المقصود السجود بدون صلاة، وإنما يصلي؛ لأن الصلاة يطلق عليها سجود، ويقال للركعة: سجدة كما في قوله تعالى: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}14 يعني: أدبار الصلوات، فالسجود المقصود به الصلاة، وليس المقصود به خصوص السجود، وهو كون الإنسان يسجد بدون صلاة؛ لأن التطوع والتنفل لا يكون بأقل من ركعتين، إلا الوتر فإنه يكون ركعة واحدة، وأما السجود وحده فلا يكون إلا في سجود الشكر أو التلاوة، أي: السجود بدون ركوع، وبدون قيام"15.

وبسبب هذا التفسير لتلك النصوص جاء تحريم بعض العلماء للسجود المطلق، وكراهة بعضهم لفعله قال ابن الأمير الصنعاني رحمه الله: "السجود بغير صلاة غير مرغب فيه على انفراده"16، وقال المناوي رحمه الله: "فإن التقرب بسجدة فردة بلا سبب حرام كما صححه الرافعي…"17، وفي تفسير "حقي": "ولهذا لو نذر سجدة مفردة لا يصح إلا أن تكون للتلاوة عند أبى حنيفة وأصحابه"18، وقال ابن تيمية رحمه الله: "وأنكر من هذا ما يفعله بعض الناس من أنه يسجد بعد السلام سجدة مفردة، فإن هذه بدعة، ولم ينقل عن أحد من الأئمة استحباب ذلك، والعبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع؛ فإن الإسلام مبني على أصلين: أن لا نعبد إلا الله وحده، وأن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا نعبده بالأهواء والبدع"19.

وأخيراً أيها الأحبة: فالذي يظهر بعد هذا العرض لهذه النقول أن التعبد لله تعالى لا بد أن يستوفي شرطين: ألا نعبد إلا الله وحده، وأن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا السجود المجرد للدعاء أو لغيره لو كان مشروعاً لورد ذلك صريحاً في نصوص الشرع، وهذا ما لا يُستطاع إثباته، لهذا تم الحُكم – والله أعلم – بأن هذا السجود المجرد هو إلى البدعة أقرب منه إلى السنة، والعلم عند الله تعالى20.

والحمد لله رب العالمين.


1 سورة العلق (19).

2 رواه مسلم برقم (744).

3 رواه مسلم برقم (1122).

4 رواه مسلم برقم (753).

5 سورة البقرة (58).

6 سورة الحج (18).

7 سورة الرعد (15).

8 رواه البخاري برقم (2960)، ومسلم برقم (228).

9 رواه مسلم برقم (744).

10 سورة العلق (19).

11 الفتاوى الكبرى لابن تيمية رحمه الله (1/340).

12 فيض القدير للمناوي (4/334).

13 التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي رحمه الله (2/270).

14 سورة ق (40).

15 شرح سنن أبي داود لعبد المحسن العباد حفظه الله (1/2).

16 سبل السلام (2/240).

17 فيض القدير للمناوي (4/334).

18 تفسير حقي (2/93).

19 مجموع الفتاوى (الباز المعدلة)(23/94).

20 أنظر للفائدة هذا الرابط لموقع الإسلام سؤال وجواب: http://islamqa.com/ar/ref/116874