فذلكم الرباط

فذلكم الرباط

الحمد لله رب العالمين، وصلاةً وسلاماً على سيد المرسلين، وآله الطاهرين، وصحبه المطهرين، وتابعيهم إلى يوم الدين، أما بعد: فقد كان رسول الله  سيد الأئمة، وكان أصحابه سادة المأمومين، رباهم على المجاهدة للنفس، والأهواء، والمغريات، وغرس فيهم حب الجهاد، والحصول على الأجر، وطلب الثواب ولو نالهم بعض التعب والمشقة.

وها نحن اليوم والحاجة ماسة إلى تأمل تربيته  لأمته، واحتذاء سلوكه؛ أملاً في الرقي بالنفس إلى ما أراد لها بارئها شرعاً؛ نذكر أحد أبواب الأجور التي ينبغي للإمام ألا يغفل عن تنمية مفهومه لدى الناس قولاً وعملاً، إنه حديث المصطفى  عن أبي هريرة  قال: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط رواه مسلم (251) أي: الرباط المرغب فيه، وأصل الرباط الحبس على الشيء كأنه حبس نفسه على هذه الطاعة، والرباط هاهنا ملازمة المسجد لانتظار الصلاة، وذلك معروف في اللغة قال صاحب العين: الرباط ملازمة الثغور قال: والرباط ملازمة الصلاة1، وهي إحدى صفات الصالحين فقد جاء عن أنس بن مالك  أن قوله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (السجدة:16) نزلت في انتظار الصلاة التي تُدعى العتمة2.

وكيف لا تكون هذه الصفة عظيمة وفيها يختصم الملأ الأعلى؟ وحياة من استدامهن ومماته كلها خير، وهو عارٍ عن الذنوب والخطايا كمولود بريء فعن ابن عباس  أن النبي  قال: أتاني ربي في أحسن صورة فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب وسعديك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: ربِّ لا أدري، فوضع يده بين كتفيَّن، فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما بين المشرق والمغرب، فقال: يا محمد، فقلت: لبيك رب وسعديك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الدرجات، والكفارات، وفي نقل الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكروهات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ومن يحافظ عليهن عاش بخير، ومات بخير، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه3 قال ابن رجب رحمه الله: الجلوس في المساجد بعد الصلوات، والمراد بهذا الجلوس انتظار صلاة أخرى كما في حديث أبي هريرة : وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فجعل هذا من الرباط في سبيل الله ​​​​​​​ ، وهذا أفضل من الجلوس قبل الصلاة لانتظارها؛ فإن الجالس لانتظار الصلاة ليؤديها ثم يذهب تقصر مدة انتظاره، بخلاف من صلى صلاة ثم جلس ينتظر أخرى فإن مدته تطول، فإذا كان كلما صلى صلاة جلس ينتظر ما بعدها؛ استغرق عمره بالطاعة، وكان ذلك بمنزلة الرباط في سبيل الله ​​​​​​​ ، وهذا الانتظار سبب لمباهاة الله  بمن يقوم به فعن عبد الله بن عمرو  قال: صليت مع رسول الله  المغرب، فرجع من رجع، وعقب من عقب، فجاء رسول الله  مسرعاً قد حَفَزه النفَس، وقد حسر عن ركبته فقال: أبشروا، هذا ربكم قد فتح عليكم باباً من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى4، وفي المسند عن أبي هريرة  عن النبي  قال: منتظر الصلاة بعد الصلاة كفارس اشتد به فرسه في سبيل الله على كَشْحِهِ5، تُصلي عليه ملائكة الله ما لم يحدث، أو يقوم، وهو في الرباط الأكبر6.

أما الجالس قبل الصلاة في المسجد لانتظار صلاة فهو في صلاة حتى يصلي ففي الصحيحين عن أنس  عن النبي  أنه لما أخَّر صلاة العشاء الآخرة ثم خرج فصلى بهم قال لهم: إنكم لم تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة رواه البخاري (661) ومسلم (640) واللفظ له، وفي هذا الحديث: فضل انتظار الصلاة، وأن منتظر الجماعة في صلاة ولو تأخرت عن أول وقته7.

وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله  : صلاة أحدكم في جماعة تزيد على صلاته في سوقه وبيته بضعاً وعشرين درجة، وذلك بأنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد لا يريد إلا الصلاة، لا ينهزه إلا الصلاة؛ لم يخطُ خطوة إلا رُفع بها درجة، أو حُطت عنه بها خطيئة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي يصلي فيه: اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحمه، ما لم يحدث فيه، ما لم يؤذ فيه وقال: أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه رواه البخاري (2119) واللفظ له، ومسلم (649)، وفي المسند عن عقبة بن عامر عن النبي  قال: إذا تطهّر الرّجل، ثمّ أتى المسجد يرعى الصّلاة كتب له كاتباه أو كاتبه بكلّ خطوةٍ يخطوها إلى المسجد عشر حسناتٍ، والقاعد يرعى الصّلاة كالقانت، ويكتب من المصلّين من حين يخرج من بيته حتّى يرجع إليه8، وفي رواية له: فإذا صلى في المسجد ثم قعد فيه كان كالصائم القانت حتى يرجع9، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، وبالجملة فإن الجلوس في المسجد للطاعات له فضل عظيم.

وصحَّ عن النبي  أنه عدَّ من السبعة الذين يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظل إلا ظله: ورجل قلبه معلََّق بالمسجد رواه البخاري (660) ومسلم (1031).

وإنما كان ملازمة المسجد مكفراً للذنوب؛ لأن فيه مجاهدة للنفس، وكفًّا لها عن أهوائها؛ فإنها لا تميل إلا إلى الانتشار في الأرض لابتغاء الكسب، والاستكثار منه، أو لمجالسة الناس ومحادثتهم، أو للتنزه في الدور الأنيقة، والمساكن الحسنة، ومواطن النزه؛ ونحو ذلك، فمن حبس نفسه في المساجد على الطاعة فهو مرابط لها في سبيل الله، مخالف لهواها، وذلك من أفضل أنواع الصبر والجهاد.

وهذا الجنس (أعني ما يؤلم النفس، ويخالف هواها) فيه كفارة للذنوب وإن كان لا صنع فيه للعبد كالمرض ونحوه، فكيف بما كان حاصلاً عن فعل العبد واختياره إذا قصد به التقرب إلى الله ​​​​​​​ ؟! فإن هذا من نوع الجهاد في سبيل الله الذي يقتضي تكفير الذنوب قال ابن رجب – رحمه الله -: “فكل ما يحصل للنفس به من المشقة والألم بالتعب والنصب هو كفارة، ومنه حبس النفس في المسجد لانتظار الصلاة، وقطعها عن مألوفاتها من الخروج إلى المواضع التي تميل النفوس إليها: إما لكسب الدنيا، أو للتنزه، هو من هذه الجهة مؤلم للنفس، فيكون كفارة، وقد جاء في الحديث إن إحدى خطوات الماشي إلى المسجد ترفع له درجة، والأخرى تحط عنه خطيئة وهذا يقوي ما ذكرناه وإن ما حصل به التكفير غير ما حصل به”10.

ولهذا المعنى كان المشي إلى المساجد كفارة للذنوب أيضاً، وهو نوع من الجهاد في سبيل الله أيضاً فعن أبي هريرة  عن النبي  : من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له في الجنة نزلًا كلما غدا أو راح رواه مسلم (669)؛ فكيف بمن يلازم المسجد؟ قال محمد بن المنكدر: إنني خلفت زياد بن أبي زياد وهو يخاطب نفسه في المسجد يقول: اجلسي أين تريدين أن تذهبي؟ أتخرجين إلى أحسن من هذا المسجد؟ انظري إلى ما فيه، تريدين أن تبصري دار فلان، ودار فلان، ودار فلان؟11.

ولما كانت المساجد في الأرض بيوت الله أضافها الله إلى نفسه تشريفاً لها، وتعلقت قلوب المحبين لله ​​​​​​​ بها لنسبتها إلى محبوبهم، وترددت أقدام العابدين إلى بيوت معبودهم، وانقطعت إلى ملازمتها لإظهار ذكره فيها فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ۝ رِجَالٌ لَّا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلَا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ (النور:36-37) فأين يذهب المحبون عن بيوت مولاهم؟!

يا حبّذا العرعرُ النجدي والبـــانُ ودارُ قومٍ بأكناف الحِمى بانوا
وأطيبُ الأرضِ ما للقلبِ فيه هـوى سَمُّ الخَياط مع المحبوبِ ميدانُ
لا يُذكرُ الرَّملُ إلا حَنَّ مُغتـــربٌ له بذي الرمل أوطارٌ وأوطانُ
يهفو إلى البان من قلبي نـــوازعُه وما بيَ البانُ بل مَن دارهُ البانُ12

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. 


1 الاستذكار (2 /303) لابن عبد البر، دار الكتب العلمية – بيروت، ط. الأولى 1421هـ – 2000م.

2 رواه الترمذي (3196)، وصححه الألباني.

3 رواه الترمذي (3234)، وصححه الألباني.

4 ابن ماجة برقم (801)، وصححه الألباني.

5 الكَشْح : الخَصْر. انظر النهاية في غريب الأثر (4 /319) لأبي السعادات المبارك بن محمد الجزري، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى ومحمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية – بيروت 1399هـ – 1979م.

6 رواه أحمد (8411) وحسنه شعيب الأرناؤوط، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1 /108) برقم (450) وقال: وإسناد أحمد صالح .

7 تطريز رياض الصالحين (2 /104).

8 رواه أحمد (16987) وصححه شعيب الأرناؤوط.

9 رواه أحمد (17003) وصححه شعيب الأرناؤوط.

10 جامع العلوم والحكم (1 /176) لابن رجب الحنبلي، دار المعرفة – بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ والحديث أصله في الصحيحين.

11 صفة الصفوة (2/105) لابن الجوزي، تحقيق: محمود فاخوري ود. محمد رواس قلعه جي، دار المعرفة – بيروت، الطبعة الثانية 1399-1979م.

12 اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى (1/8) لابن رجب الحنبلي. بتصرف.