السعادة الوهمية

 

السعادة الوهمية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102)، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(النساء:1)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}(الأحزاب:70-71)، أمابعد:

قد يرى العطشان الذي اشتد عطشه وهو في فلاة في الأفق ثمة ماء، فيذهب إليه مسرعاً عجولاً لا يصده عن ذلك صاد، ولا تلوي عنقه العقبات، وربما يبذل في سبيل الوصول إلى مبتغاه كل غال ورخيص، يريد بذلك أن يعيش، يريد بذلك أن يسعد، يريد أن يتمتع بحياته، يريد ..، يريد..؛ لكنه بعد طول الطريق، ومشقة المسير؛ لا يجد إلا سراباً.

وهْمٌ عاش يحلم به، وبات يرقبه ويرجوه، فما حاله حين يجد الماء سراباً، كم من الحسرات تنتظره، وكم من الندم على ما بذل في ذلك يلقاه، لا يفتأ يرجع خاسئاً وهو حسير.

هذا المثال نضربه لكل من طلب السعادة فأخطأ طريقها، ظن أنه يسير في الدرب الموصل إليها لكن ما أن انتهى إلى ما أراد حتى علم أنه ضحية سعادة وهمية، سعادة سرعان ما تنتهي لذتها، وينجلي زيفها، وتظهر حقيقتها، سعادة كاذبة عنوانها البعد عن الله، وطريقها الفرار من الله، ودليلها إبليس عدو الله.

أهلها المسرفون على أنفسهم، القانطون من رحمة الله، ممن اتبع هواه، واتخذ إلهاً مع الله، أعرض عن ذكر الله، لا يُرى إلا عاص لاه، ظن أن السعادة في أمور ما هي في الحقيقة إلا {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(النور:39).

ومن أبرز تلك الأمور:

– المال، وما أدراك ما المال، أصبح عند البعض – بل الكثير – هو السعادة، ظنوا أن السعادة في جمع الأموال، وتحصيل الثروات، وامتلاك المباني والعقارات، فما يرى من الناس سعيد إلا من عنده من ذلك شيء يذكر، وقد أخطأ والله من اعتقد هذا أو حدَّث نفسه به

ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد

كم من صاحب مال أرداه ماله فهو في هم وغم، وتعاسة وشقاء؛ لا يعلم بذلك إلا الله، كم من صاحب مال في قلق شديد يخشى أن تنقص ثروته، أو أن يسرق ماله، يخشى أن يقتل…

ومع كل ذلك فقد يغره ماله فيظن أن ماله سيخلده {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ}(الهمزة:3-9)، أي سعادة يعتبر هذا المال وصاحبه يظن أنه لن يقدر عليه أحد {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً}( البلد:6)، “قال الليث: مال لبد لا يخاف فناؤه من كثرته”1.

أيُّ سعادة في هذا المال الذي غرَّ قارون فخسف الله تعالى الأرض به وبما معه من مال {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}(القصص:76-78) “قال الأعمش عن خَيْثَمَةَ: كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود، كل مفتاح مثل الأصبع،كل مفتاح على خزانة على حدته، فإذا ركب حُملت على ستين بغلاً أغر محجلاً”2،

فماذا كانت عاقبته، وما هي السعادة التي حصل عليها، استمع إلى رب البرية وهو يذكر مصير من ظن أن المال هو كل شيء: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ}(القصص:81) يقول السعدي رحمه الله: “فلما انتهت بقارون حالة البغي والفخر، وازَّيَّنَت الدنيا عنده، وكثر بها إعجابه؛بَغَتَهُ العذاب (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ) جزاء من جنس عمله، فكما رفع نفسه على عباد اللّه؛ أنزله اللّه أسفل سافلين هو وما اغتر به من داره وأثاثه ومتاعه”3.

أي سعادة هذه التي لا تغني عن صاحبها حر جهنم: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ}(الحاقة:25-28)، أين ذهب ماله؟ أين ذهبت بساتينه وجناته التي كان يفخر بها وهو يظن أنه سيخلد في هذه الدنيا؟ 

{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً}(الكهف:35-36)، هكذا يقول من ظن أن المال هو السعادة، وأنه به سيعيش أبداً؛ لكن العاقبة لمثل هؤلاء وخيمة {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً}(الكهف:42-43).

– ومن السعادة الوهمية التي انخدع بها الكثير الظن بأن السعادة هي المنصب والجاه، وبأن يكون صاحب كلمة مسموعة، وسلطان نافذ، ونسي من ظن ذلك الحال التي آلت بأحد ملوك الأرض وأعظمها يوم غرَّه ملكه، وزُين له سوء عمله، ونسي أنه كائن حقير بيد الله حياته وموته، وشفاؤه ومرضه، انظر إليه وهو يزهو بين أملاكه، ومبانية ماذا يقول؟ {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}(الزخرف:51-52)،

فهل سينفعه الـمُلْكُ الذي يفتخر به إن جاءه أمر الله تعالى؟ لا شك أنه يذهب كل ذلك، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ}(الزخرف:55-56)،وهذا جزاء كل من تكبر على الله ​​​​​​​ ، وتغطرس على أوليائه.

وهنا أمثلة على من اغتر بملكه يذكرها صاحب كتاب (السعادة بين الوهم والحقيقة)فيقول:

“- شاه إيران: الرجل الذي أقام حفلاً ليعيد فيه ذكرى مرور ألفين وخمسمائة سنة على قيام الدولة الفارسية، وأراد أن يبسط نفوذه على الخليج، ثم على العالم العربي بعد ذلك ليلتقي مع اليهود، ذلك الرجل الذي كان يتغنى ويتقلب كالطاووس، كيف كانت نهايته؟ لقد تشرد!! طرد!! لم يجد بلداً يؤويه، وظل على هذه الحال حتى مات شريداً طريداً في مصر بعد أن أنهكه الهم، وفتك به السرطان، أما أولاده وأهله وحاشيته فقد أصبحوا أشتاتاً متفرقين في عدة قارات!.

– رئيس الفلبين: هذا الرجل الطاغية ماذا حدث له؟ لقد قلبت نظري كثيراً في قصته فوجدتها جديرة بأخذ العبرة منها، هذا الزعيم أذاقه الله غصص التعاسة والشقاء في الدنيا قبل الآخرة، فإذا به بين عشية وضحاها يتحول إلى شريد طريد يتنكر له أسياده وأصدقاؤه، لا يملك الرجوع إلى بلد، كان يرتع فيه كما يشاء، حتى إذا جاءت وفاته لم يستطع أن يحصل على أشبار قليلة في بلده يواري فيها سوءته، فسبحان مالك الملك”4.

– ومن السعادة الوهمية التي اغتر بها الكثيرون: الشهرة، فيعرف بين الناس، وينتشر صيته، ويكثر جمهوره، وكل ذلك متاع زائل، وهل ينفعه ذلك يوم أن يلقى الله جل في علاه ولا يملك له أحد من الله شيئاً {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}(البقرة:48)، نعم يوم القيامة لا ينفع بعضهم بعضاً،

بل يتلاعنون فيما بينهم: {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ}(الأعراف:38)، فأين الشهرة؟ وأين الحب الذي كان ينثره الجمهور؟ وأين ..؟ وأين..؟ ذهب كل ذلك.

وقبل هذا هل كان ذلك المشهور سعيداً في حياته؟ هل كان مستقراً كبقية الناس في شؤون دنياه؟ قد يظن الكثير أنه بشهرته قد زاحم السعداء في الحياة، وأخذ مكانته منها؛ فالأموال عنده، والدنيا ترحب به صباح مساء، والشهرة تتزين له في كل لحظة وحين، وهو في الأصل قد زاحم في طلب السعادة لكنها – للأسف – سعادة وهمية.

المشهورون – مثلاً – من أهل الرياضة كيف حالهم، هل هم سعداء حقاً؟ جاء في كتاب (السعادة بين الوهم والحقيقة): “أهل الرياضة معظمهم يعيش الشقاء في أيامه ولياليه، فمن معسكر إلى معسكر، ومن سفر إلى سفر، فلا يكاد يستقر مع أهله إلا قليلاً، ويضطرأغلبهم إلى التفريط بمستقبلهم الدراسي، وعدم مواصلته بسبب الانشغال الكامل بالرياضة.

أضف إلى ذلك: اضطرابهم عند كل مباراة، وكآبتهم عند كل هزيمة، ثم إن الإصابات تتقاذفهم من كل جانب، كما أن الخوف من رأي الجماهير ونظرتها عند أي هبوط في المستوى يجعلهم يعيشون شقاءً متواصلاً، ثم ماذا بعد ذلك؟ إن الناس سرعان ما ينسونهم بعد الاعتزال فيزدادون ألماً وحزناً، إذن فليست السعادة عند أهل الرياضة وإن ظن الكثيرون أنها عندهم”5.

وقد يرى الناس أن أصحاب الشهرة من الممثلين والمغنين وغيرهم ممن اشتهر بمعصية الله تعالى سعداء، وهم في الحقيقة أشقياء، يُرى في ظاهرهم السعادة، وفي حقيقة باطنهم كل الشقاء والألم

ما لقيت الأنـام إلا رأوا مني ابتســاماً ولا يدرون ما بي
أظهر الإنشراح للنـاس حتى   يتمـنـــوا أنهم في ثيابي
لو دروا أنني شقي حــزين ضاق في عينه فسيح الرحاب
لتنـأوا عني ولم ينظــروني ثم زادوا نفـورهم في اغتيابي
فكأني آتي بأعظم جـــرم   لو تبدت تعـاستي للصحاب
هكذا الناس يطلبون المنــايا للذي بينـهم جليل المصاب

وهذه السعادة الوهمية لها أسبابها التي توصل إليها، وشباكها التي تصاد بها ضحاياها،ولا يغني عن أحدنا أن يطلب السعادة الحقيقة فيسلك مسالك السعادة الوهمية، فلا يصل إلى مبتغاة

 

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس

فما الطرق المؤدية إلى السعادة الوهمية؟

نذكر أهمها:

– الشرك بالله والكفر به سبحانه وتعالى، فصاحبه صاحب ضيق دائم لا ينفك عنه ولا يفارقه يقول تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(طه:124)، ويقول جل شأنه: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}(الأنعام:125).

– الذنوب والمعاصي التي لا تزيد القلب إلا ضيقاً، ولا تزيد النفس إلا حسرة وندامة، ولا تزيد الجوارح إلا ضعفاً ووهناً يقول ابن القيم رحمه الله وهو يذكر آثار الذنوب والمعاصي: “ومن عقوباتها ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي فلا تراه إلا خائفاً مرعوباً، فإن الطاعة حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب، فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقه أماناً، ومن عصاه انقلبت مأمنه مخاوف، فلا تجد العاصي إلا وقلبه كأنه بين جناحي طائر إن حركت الريح الباب قال: جاء الطلب، وإن سمع وقع قدم خاف أن يكون نذيراً بالعطب، يحسب كل صيحة عليه، وكل مكروه قاصد إليه، فمن خاف الله آمنه من كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء

بدا قضاء الله بين الخلق مذ خلقوا إن المخاوف والإجرام في قرن

ومن عقوباتها أنها توقع الوحشة العظيمة في القلب فيجد المذنب نفسه مستوحشاً قد وقعت الوحشة بينه وبين ربه، وبينه وبين الخلق، وبينه وبين نفسه، وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة، وأمرُّ العيش عيش المستوحشين الخائفين، وأطيب العيش عيش المستأنسين، فلو نظر العاقل ووازن بين لذة المعصية وما تولد فيه من الخوف والوحشة لعلم سوء حاله،وعظيم غبنه إذ باع أنس الطاعة وأمنها وحلاوتها بوحشة المعصية وما توجبه من الخوف

 

إذا كنت قد أوحشتك الذنوب  فدعها إذا شئت واستأنس”6

ظلم الآخرين؛ وكيف يعيش الظَلَمَةُ ودعوات المظلومين مسلطة عليهم قد فتحت لها أبواب السماء فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله   لمعاذ بن جبل   حين بعثه إلى اليمن: ((.. واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) رواه البخاري (2268)، ومسلم (27)

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عينك والمظلــوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم

– حب غير الله كحب الله أو أشد: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ *إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}(البقرة:165-167) يقول ابن القيم – رحمه الله -: “من أحب شيئاً سوى الله – تعالى – ولم تكن محبته له لله – تعالى -، ولا لكونه معيناً له على طاعة الله – تعالى -؛ عُذِّب به في الدنيا قبل يوم القيامة، كما قيل:

أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفى

فإذا كان يوم المعاد ولى الحكم العدل سبحانه كل محب ما كان يحبه في الدنيا فكان معه إما مُنعَّماً أو مُعذَّباً”7.

– ومن طرق السعادة الوهمية أيضاً الحسد والحقد، وتتبع عورات الآخرين، وكل الأخلاق السيئة والقبيحة.

اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا، أقول قولي وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:

علمنا أن السعادة ليست في المال، ولا في الجاه، ولا في السلطان، ولا في الشهرة، إن كانت كل هذه بعيدة عن طريق الله تعالى؛ وهي لا تحصل إن كان المرء بعيداً عن الله جل في علاه، لا تحصل لمن أعرض عن الله، واتبع هواه وظلم، وأحب غير الله حباً لا يقربه إلى مولاه.

وهنا ينبغي أن نعلم ما هي السعادة الحقيقة، وما الطريق الموصل إليها؟

الجواب هو أن السعادة الحقيقية هي التي تكون بأمور منها:

-الإيمان بالله تعالى، والاستسلام له جل شأنه: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ}(الزمر:22)، ويقول سبحانه: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}(الأنعام:125).

– عمل الصالحات والقربات: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(النحل:97)، ويقول النبي  : ((من سرته حسنته،وساءته سيئته؛ فذلكم المؤمن))8،فالحسنة تسر صاحبها وتسعده.

– الإيمان بقضاء الله وقدره، فكل هم وضيق تجده فيمن ضعف في هذا الباب، فلا يجد راحة، ولا يأنس بسعادة، فيؤمن المؤمن بكل ما كتب الله تعالى له من المقادير إن كان خيراً حمد الله عليه، وإن كان شراً صبر واسترجع فعن صهيب  قال: قال رسول الله  : ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير – وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن – إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) رواه مسلم (5318)، فلابد أن يرضى المؤمن بما قسم الله له من: الرزق، والقدرات، والمهارات، وكل ما عنده في الدنيا، فما كان له فسيصل إليه، وما لم يكن له فلن يصل.

– ومن أسباب السعادة الحقيقة صحبة الأخيار الصالحين: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}(الكهف:28)، والرفقاء الصالحون هم السعداء لأن الله معهم: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(البقرة:194)، يهديهم ويسددهم بينما أهل المعاصي تسوسهم الشياطين: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }(سورة الأنعام:112).

– ومن أسباب السعادة الدعاء، فيدعو المسلم ربه أن يسعده في حياته وآخرته، ويسأل ربه الرزق الحلال المبارك، ويسعى مع دعائه لهذا الرزق فقد كان من دعاء النبي  : ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري،وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر)) رواه مسلم (4897).

فالسعادة بذكر الله والقرب منه، السعادة بفعل الطاعات وترك المنكرات، السعادة بتلاوة القرآن والعمل به، السعادة في الفرار من الله إليه، نجدها في التوبة الصادقة، نجدها في جنات عدن التي وعد الله عباده المتقين: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ}(محمد:15).

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.

اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار، اللهم إنا نسألك عيش السعداء، ومرافقة الأنبياء،والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.

 


1 فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (5/443) للشوكاني، دار النشر: دار الفكر – بيروت.

2 تفسير القرآن العظيم (3/400) لابن كثير، دار النشر: دار الفكر – بيروت 1401.

3 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/624) للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، دار النشر: مؤسسة الرسالة – بيروت 1421هـ- 2000م.

4 السعادة بين الوهم والحقيقة (ص10) لناصر بن سليمان العمر (الموسوعة الشاملة الإصدار الثالث).

5 السعادة بين الوهم والحقيقة (ص7).

6 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (الداء والدواء) (ص 50)، ابن القيم، دار النشر: دار الكتب العلمية – بيروت.

7 إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1/39)، ابن القيم، دار النشر: دار المعرفة – بيروت – 1395 – 1975، الطبعة: الثانية، تحقيق: محمد حامد الفقي.

8 رواه الترمذي (2091)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزياداته (1/ 432)، الناشر: المكتب الإسلامي.