تطييب الخواطر
الشيخ: محمد صالح المنجد
الجمعة26/3/1431هـ
عناصر الموضوع:
1. تطييب الخواطر في الشريعة الإسلامية.
2. نماذج في تطييب الخواطر.
3. يوم الحشر وأصناف الناس فيه.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
تطييب الخواطر في الشريعة الإسلامية
فإن الله -سبحانه وتعالى- قد عَقَدَ عَقْدَ الأخوة بين المؤمنين، وجعلهم بنعمته إخواناً، وهذه الأخوة تقتضي: الإحسان، والإحسان درجات وأنواع، ومن إحسان المسلم إلى المسلم، ومما جاءت به شريعة الإسلام: تطييب الخواطر، أكثر ما يُدخل الجنة: التقوى وحسن الخلق، وتطييب النفوس المنكسرة وجبر الخواطر من أعظم أسباب الألفة والمحبة بين المؤمنين، وهو أدب إسلامي رفيع، وخلق عظيم لا يتخلق به إلا أصحاب النفوس النبيلة، وهو عبادة جليلة، وقد نص أهل المعتقد من أهل التوحيد والسنة على ذلك حتى في بعض مصنفاتهم في العقيدة، فقال الإمام إسماعيل بن محمد الأصبهاني في كتابه الحجة في بيان المحجة: "ومن مذهب أهل السنة التورع في المآكل والمشارب والمناكح، ثم قال: ومواساة الضعفاء والشفقة على خلق الله، فأهل السنة يعرفون الحق، ويرحمون الخلق، وأئمة أهل السنة والعلم والإيمان فيهم العدل، والرحمة، والعلم، فيريدون للناس الخير.
نماذج في تطييب الخواطر
وقد جاءت هذه الشريعة بما يطيب النفوس. واستُحبت التعزية على سبيل المثال لأهل الميت؛ لتسليتهم ومواساتهم، وتطييب خاطرهم، عند فقد ميّتهم، وكذلك يطيب خاطر المطلقة بالتمتيع، وهو حق على المحسنين، متاعاً بالمعروف، فإذا لم يفرض لها مهر كان المتاع والتمتيع واجباً على المطلق، وإذا كان لها مهر أخذته، فإن تمتيعها بشيء تأخذه معها وهي ترتحل من مال غير المهر، أو ثياب، أو حلي، ونحو ذلك؛ جبراً لخاطرها، وتطييباً للقلب المنكسر بالطلاق، {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} سورة البقرة (236)، {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} سورة الأحزاب(28)، لماذا؟ لأن القلب قد حصل فيه انشعاب، والنفس قد كُسرت وكسرها طلاقها، فجبر الكسر بالمتاع من محاسن دين الإسلام، لا كأخلاق أهل هذا الزمان: الذين أدى بهم غياب العقل إلى إحداث حفلات للطلاق، عباد الله: أُقرت الدية في قتل الخطأ؛ لجبر نفوس أهل المجني عليه، وتطييباً لخواطرهم، كما قال ابن قدامه -رحمه الله-، وكان من توجيهات ربنا -سبحانه وتعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} سورة الضحى(9-10)، فكما كنت يتيماً يا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فآواك الله، فلا تقهر اليتيم، ولا تذله، بل: طيب خاطره، وأحسن إليه، وتلطف به، واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك، فنهى الله عن نهر السائل وتقريعه، بل: أمر بالتلطف معه، وتطييب خاطره، حتى لا يذوق ذل النهر مع ذل السؤال، وهذا أدب إسلامي رفيع، وهذا مع المحتاجين، وليس مع المتحايلين الكذابين، عاتب الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- لأنه أعرض عن الأعمى، وقد جاءه يستفيد، يسأل، يا رسول الله: علمني مما علمك الله، وكان النبي –عليه الصلاة والسلام- منشغلاً بدعوة بعض صناديد قريش، فأعرض عنه، فأنزل الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى*أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى*وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى*أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} سورة عبس:(1 – 4)، قال القرطبي في التفسير: "فعاتبه الله على ذلك؛ لكي لا تنكسر قلوب أهل الإيمان"، تطييب الخواطر لمن انكسر قلبه من مصيبة مثلاً واضح جداً في السنة النبوية، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: ((لقيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لي: يا جابر: مالي أراك منكسراً، قلت: يا رسول الله: استشهد أبي (قتل يوم أحد) وترك عيالاً وديناً، (أخوات ودين، وليس إلا جابر)، قال -عليه الصلاة والسلام-: أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحا، فقال: يا عبدي تمن عليّ أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب -عز وجل-: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون))، حديث حسن رواه الترمذي(3010)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (7 / 10)، كان -عليه الصلاة والسلام- يطيّب خواطر هؤلاء الذين أثقل كاهلهم الدين، ولا يجدون ما يواجهون به مهمات الحياة ووظائفها: كالزواج، دخل -عليه الصلاة والسلام- ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: ((يا أبا أمامة، مالي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني، وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلمك كلاماً إذا أنت قلته أذهب الله -عز وجل- همك، وقضى عنك دينك، قلت: بلى يا رسول الله؟ قال: قل إذا أصبحت، وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم، والحزن، وأعوذ بك من العجز، والكسل، وأعوذ بك من الجبن، والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين، وقهر الرجال، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله -عز وجل- همي وقضى عني ديني))، رواه أبو داود(1557)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (1/2)، وقال الشوكاني: لا مطعن في إسناد هذا الحديث.
إذاً: قد يكون تطييب الخاطر بدعاء يُعلَّمه ذلك المصاب، قد ينبغُ في المسلمين نابغة، ويفي للحق غلام، ويكون صادقاً في نقله، حريصاً على مصلحة الإسلام، واعياً لمؤامرات المنافقين، لكن لا يكون له إثبات في نقله، أو مستند، وحجة في مواجهته لهؤلاء المنافقين وهو صغير السن، فلا يؤخذ بقوله، بل يستنكر عليه فينكسر، فينزل الله قرآناً في تطييب نفس ذلك الغلام، عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه-: ((أنه لما سمع قول عبد الله بن أبي لأصحابه وكان بمعزل عن جيش المسلمين، ولم يأبهوا لذلك الغلام، فقال عبد الله المنافق لأصحابه: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، (أبلغ زيد عمه، وأبلغ العم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كلمة خطيرة جداً)، أرسل النبي -عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن أبي، جاء، وحلف، وجحد، قال زيد: فصدقه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (وصار اللوم على زيد، كيف تنقل مثل هذا الكلام الخطير، أنت غلام لا تعلم ماذا يترتب على مثل هذا الكلام)، قال زيد: فوقع علي من الهم ما لم يقع على أحد، فبينما أنا أسير قد خفقت برأسي من الهم، (هذا غلام انكسر قلبه وخاطره من جراء رد قوله، ولوم الناس له وهو صادق)؛ إذ أتاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعرك أذني، وضحك في وجهي، فما كان يسرني أني لي بها الخلد في الدنيا))، رواه الترمذي(3312) وأصله في الصحيحين([1])، وهو سبب نزول قول الله -تعالى- في سورة المنافقون: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}سورة المنافقون(8)، صدّق الله أُذُن الغلام، أنزل تصديقه في كتابه، وأنزل آيات إلى يوم الدين تتلى، شاهدة على البر والوفاء، وعلى الوعي، وسرعة تبليغ النبي -صلى الله عليه وسلم- بما حصل، وهذا من مقتضيات الإيمان في مواجهة أهل النفاق والكفران، يحتاج الناس دائماً إلى كلمة حانية، ومواساة كريمة، وذلك لكثرة حوادث الدنيا، وهؤلاء المنكسرين من الفقراء، والأرامل، والأيتام، تطييب خاطرهم، وجبر مصابهم، والإحسان إليهم بالكلمة الطيبة، وتقديم المال، وكذلك زكاة الجاه، والسعي في قضاء الحاجات، إنه: خطب عظيم، وأمر جسيم، وباب للأجر كبير، كان لأبي بزرة جفنة أي قصعة، من ثريد غدوة، وجفنة عشية، لمن؟ للأرامل، واليتامى، والمساكين، وكان صاحب المغرب: المنصور يجمع الأيتام في العام، فيأمر للصبي بدينار، وثوب، ورغيف، ورمانة، والقاضي محمد بن علي المروزي، عُرف بالخياط؛ لأنه كان يخيط بالليل للأيتام والمساكين، ويعدها صدقة، أصحاب المصاب يحتاجون إلى تخفيف المعاناة بالكلمة الطيبة، بالفعل الحسن، حينما صُلب عبد الله بن الزبير قيل لابن عمر: إن أسماء في ناحية المسجد، أمه، والحجاج مثّل بالجثة، فما كان منه عندما سمع ذلك إلا أن ذهب إليها مسرعاً، ويطيب نفسها على ابنها، فيقول لها: إن هذه الجثث ليست بشيء، وإنما الأرواح عند الله، فاتقي الله واصبري.
عروة بن الزبير رجع من سفر، مات ولده بالعين، وقطعت رجله بالغرغرينا، وقال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، سمع إبراهيم محمد بن طلحة بما حصل لعروة بن الزبير، فذهب إليه يواسيه، فقال: والله ما بك حاجة إلى المشي، ولا أرب في السعي، وقد تقدمك عضو من أعضاءك، وابن من أبنائك إلى الجنة، والكل تبع للبعض -إن شاء الله-، وقد أبقى الله لنا منك ما كنا إليه فقراء، من علمك ورأيك، والله ولي ثوابك والضمين بحسابك، ابن لهيعة قاضي مصر حين احترقت مكتبته العظيمة، واحترقت داره، بعث إليه الليث بن سعد من الغد بألف دينار، الدينار أربعة غرامات وربع من الذهب، أي: أربعة آلاف ومائتين وخمسين غراماً من الذهب.
تشتد الحاجة إلى المواساة؛ لأن أصحاب القلوب المنكسرة كثيرون، نظراً لشدة الظلم الاجتماعي في هذا الزمان، هذه معلقة لا هي زوجة ولا هي مطلقة، هذه أرملة، ذاك مسكين، هذا يتيم، والآخر عليه ديون وغم وهم، وهذا لا يجد جامعة، وهذا لا يجد وظيفة، وهذا لا يجد زوجة، أو لا يجد زواجاً، المواساة تطييب الخاطر بكلمة: ذكر، دعاء، موعظة، مال، مساعدة، جاه، قضاء حاجة، الكلمة الطيبة صدقة، قال ابن القيم: جئت يوماً مبشراً لابن تيمية بأكبر أعدائه، وأشدهم عداوة له وأذى، فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله، أهل الميت فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسُروا به ودعوا له، أصحاب الأخلاق العالية يواسون حتى أهل عدوهم الذي كاد لهم وحسدهم وبغى عليهم وغلبهم، قال أحمد بن عبد الحميد الحارثي: ما رأيت أحسن خلقاً من الحسين اللؤلؤي، كان يكسو ممالكيه كما يكسو نفسه، الخادم هذا جاء من بعيد، في نفسه انكسار من الغربة، فلا أقل من أن يُطَيّب خاطره بشيء يشعره بأن من حوله له أهل، وتطييب الخواطر له أثر كبير على النفوس، يمسح المعاناة، ويُصَبّر، ويقوي القلب في مواجهة الشدائد، ويمنع من الانهيارات النفسية، والسكتات، والجلطات، والناس إذا ورد عليهم الوارد القوي وقلوبهم فيها ضعف ينهارون، وقد يموتون.
عكس تطييب الخاطر تماماً: التشفي، فترى بعض أصحاب النفوس المريضة يفرح برسوب أولاد الجار، أو تطاول الأبناء على أبيهم، أو مصيبة أحد زملائه في العمل، تفرح الضرة لما أصاب ضرتها، أو الموظفة لما أصاب زميلتها في العمل من الطلاق، كيد، وحسد يدفع للتشفي، هذه من صفات المنافقين:{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا} سورة آل عمران(120).
يا عائداً قد جاء يشمت بي قد زدت في سقمي وأوجاعي
وسألت لما غبت عن خبري كم سائل ليجيبه النـاعــي
عباد الله: فإن هذه المواساة، وهذا التطييب: الناس بحاجة إليه عند فقد الأحبة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- حينما ذهب يعزي صحابياً على فقد ولده الوحيد، الذي كان يأتي ويلعب في حجره في الدرس، أيسرك أنه عندك؟، أو أنك لا تأتي إلى باب من أبواب الجنة إلا ووجدته قد فتحه سبقك إليه يفتحه لك، حين توفيت بنت المهدي الخليفة، جزع جزعاً لم يسمع بمثله، فجاء الناس يعزونه بلا فائدة، حتى جاء رجل، فقال له: أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجراً، وأعقبك خيرا، ولا أجهد بلاءك بنقمة، ولا نزع منك نعمة، ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك، فلم يروا تعزية أبلغ، ولا أوجز منها، وعزى أعرابياً رجلٌ فقد ولده، وكان اسم الولد العباس، فقال له:
خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعباس
فإذاً: صبرك عليه خير من بقائه عندك، وما عند الله خير له مما عندك، هذا يُذهب ثلاثة أرباع الحزن، المواساة الجميلة، والتعزية الحسنة، ثم من تطييب الخاطر أن يقبل الإنسان عذر المعتذر الذي أخطأ عليه.
اقبل معاذير من يأتيك معتذرا إن بر عندك فيما قال أو فجرا
حتى لو كذب في الاعتذار.
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره وقد أجلك من يعصيك مستترا
قبول الاعتذار من تطييب الخواطر، إهداء الهدية من تطييب الخواطر، قال أنس لأولاده: يا بني تبادلوا بنيكم، فإنه أود لما بينكم، وكذلك بشاشة، وطلاقة وجه، وقضاء حاجة، لا يأنف المؤمن أن يمشي مع الأرملة والمسكين، قال حكيم: ما أصبحت قط صباحاً لم أر طالب حاجة إلا أعددتها مصيبة، ترك قضاء حقوق الإخوان مذلة، وفي قضاء حقوقهم رفعة، بقيّ بن مخلد الإمام المصنف في الحديث العظيم مشى مع ضعيف في مظلمة إلى اشبيلية، ومشى مع آخر إلى إلبيرة، ومع امرأة ضعيفة إلى جيان، وهذه من مدن الأندلس، من بلد إلى بلد مشى، وكذلك: فإن تطييب خاطر المشارك في الخير حتى لو كانت مشاركته يسيرة: بدعاء، وحسن قبول، إن ذلك مما يرفع من معنوياته، ومما يحمسه على الخير.
أراد حسان بن سعيد المخزومي أن يبني جامعاً، فأتته امرأة بثوب لتبيعه، وتنفق ثمنه في بناء ذلك الجامع، وكان الثوب لا يساوي أكثر من نصف دينار، فطيب خاطرها، واشتراه منها بألف دينار، وخبأ الثوب كفناً له، كان القعقاع بن ثور إذا قصده رجل وجالسه، جعل له نصيباً من ماله، وأعانه على عدوه، وشفع له في حاجته، وغدا إليه بعد المجالسة شاكرا.
نحتاج اليوم إلى تطييب الخاطر، وقد تكون مواقع بعض الناس الاجتماعية مؤهلة لهم لذلك: كالمفتي، والعالم، والإمام، والخطيب، والطبيب، وهكذا المدير، فإن المدير يقوم بدور عظيم في تطييب خواطر الموظفين، والكلمة اللطيفة منه، والتشجيع، والدعم النفسي والمعنوي لا شك أن له أثر عظيم في نفوس من تحته، وقد يصبح المريض صحيحاً بمثل هذا، ويصلح المخطئ، ويزول حزن المهموم، والكلام يجب أن يُنتقى بمثل: التذكير برحمة الله، سعة فضله، إن مع العسر يسرا، بعد الهم فرجا، ومن يتق الله يجعل له مخرجا، انتظار الفرج عبادة، رحمة الله بالمضطرين، أمن يجيب المضطر إذا دعاه، المعونة تنزل على قدر الشدة، وهكذا من الكلام الطيب الذي جاء في الكتاب والسنة.
نسأل الله –تعالى- أن يجعلنا من القائمين بحقوق إخواننا، ونسأله -عز وجل- أن يؤلف بين قلوبنا ويصلح ذات بيننا.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وسبحانه أكبره تكبيرا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته الطيبين، وخلفائه والتابعين له بإحسان له إلى يوم الدين.
يوم الحشر وأصناف الناس فيه
عباد الله: اتقوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده، ذلك يوم الحشر أوله أن يحشر الناس من أقطار الأرض إلى الشام، والله أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم في المدينة لأول الحشر في الشام، تمهيداً للحشر الأعظم الذي يكون يوم الدين، يحشر الناس جماعات، {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا}سورة الزمر(73)، وكذلك: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا}سورة الزمر(71)، أما أهل النار، فيساقون بدفع وإهانة، وينهرون نهراً غليظاً، تسوقهم الملائكة في ذلك اليوم، يساقون إلى جهنم جماعات مع أشباههم ونظرائهم، اليهود مع بعض، والنصارى مع بعض، وهكذا حتى يردون جهنم عطاشاً، ويساق أصحاب الكبائر معاً، فالزاني مع الزناة، والمرتشي مع المرتشين، والسارق مع السرّاق، وهكذا الكذاب مع الكذابين، {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} سورة الصافات(22) أي: نظرائهم، وأشباههم، ومن هو على شاكلتهم، يساقون إلى النار سوقاً، وما هي من الظالمين ببعيد، ويساقون، سوق البهائم: مشاة، عطاشاً، {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}سورة مريم(85-86)، وردا أي: عطشانين، ويحشرون على وجوههم؛ إذلالاً لهم، كما قال الله -عز وجل-: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا}سورة الفرقان(34)، {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}سورة الملك(22) تعجب بعض الصحابة من هذا، فقال قائلهم: ((يا نبي الله: كيف يحشر الكافر على وجهه؟، قال: أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة))البخاري(6158)، ومسلم(2806)، ويكون ذلك الحشر بالصورة المنكرة من: العمى، والصمم، والبكم، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}سورة الإسراء(97)، فيُسعر عليهم العذاب ويزاد.
وسيق المجرمون وهم عراة إلى ذات المقامع والنكال
فنادوا ويلنا ويلاً طويلاً وعجوا في سلاسلها الطوال
فليسوا ميتين فيستريحوا وكلهم بحر النار صال
وهناك أناس يجمعهم الله –تعالى- في وفد مكرمين إلى الجنة تكون معهم الملائكة، {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا}، فهم مكرمون بهذا الوفد، وهذا السوق{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}سورة الرحمن(46)، وهذا لا يكون إلا لمن نهى نفسه عن الهوى، وألزمها طاعة الله، وشتان شتان بين من يعذب في النيران، وبين من تكون عاقبته ذواتي أفنان: أغصان نظرة حسنة، فيها الفاكهة النضيجة، وفيها عينان تجريان، تسرحان لسقي الأشجار والأغصان، و{فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}سورة الرحمن(52)، من جميع أنواع الثمار، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر،{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}أي: مضطجعين عليها، هذا الحرير وصف الله -تعالى- الباطن من الفراش بأنه من إستبرق، فكيف لو رأيت الظاهر يا عبد الله، {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} سورة الرحمن(54)، أي: أن ثمرها قريب، وأن قطوفها دانية، متى شاء تناول، على أي صفة كان، لا يأخذ ثمرة إلا خرج بدل منها، وتنحط إليه أغصانها، فلا يحتاج إلى القيام، فيأخذ منها قائماً، وقاعداً، ومضطجعاً، {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}سورة الصافات(48) غضيضات عن غير أزواجهن، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}سورة الرحمن(56)، ولم يطأهن أحد من المخلوقات، {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}سورة الرحمن(58) في الصفاء والبياض، {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ}سورة الصافات(49) لم يلمسه أحد، {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}سورة الرحمن(60)، وهكذا تكون شدة خضرة الجنة، قريباً من لون السواد:{مُدْهَامَّتَانِ}سورة الرحمن(64)، من شدة الري، قد اسودتا من الخضرة، ومن كثرة الأشجار والتفاف أغصانها،{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ}سورة الرحمن(66)، تنبعان وتفيضان، ولا تنقطعان، {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}سورة الرحمن(68)، وهذا يدل على التنوع، وجمال الفاكهة، وكذلك فإن هذا الرفرف الأخضر، والعبقري الحسان: الوسائد، والسجاد، والمفارش {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ}سورة الرحمن(76)، هذه الوسائد، والعبقري الزرابي، وقيل: الديباج، وقيل: المرافق التي يتكأ عليها والمساند، المتكئات، وكذلك: الفرش وكذلك: البسط، وهكذا مكافئة من الله -تعالى- لأوليائه.
اللهم لا تحرمنا جنتك، وآتنا من فضلك ورحمتك، وجنبنا النار، فإنها دار البوار، واصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما، اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وأدخلنا الجنة مع الأبرار، اللهم عافنا في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا، واستر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم إنا نسأل الأمن في البلاد، والنجاة يوم المعاد يا رب.