دعوة للموازنة بين الكم والكيف

 

 

دعوة للموازنة بين الكم والكيف

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

إلى مربي الأجيال وصانع الرجال.

إلى حامل اللواء وساقي الرواء.

إلى صانع المجد وساقي الوجد.

منارة الدنيا، وأنشودة الأمل، ومنبع الإلهام، وروضة الفكر المتزن.

معلم التحفيظ، ومدرس القرآن الكريم.

إني أعلم والله أن العبء عظيم على كاهلك، وأنك قد وليت مسئولية جسيمة يوم أن حملت على عاتقك تنشئة أجيال الأمة الواعدة، فبارك الله في وثبتك، وأعانك على إتمام مسيرتك.

ودعني أخفف عنك شيئاً من العناء الذي تلقاه في طريق تربيتك، وخطى دعوتك، فأدعوك أن تستحضر ما قاله معلمنا الأول   مبيناً فضل هذا الطريق بقوله: ((من علَّم آية من كتاب الله عز وجل كان له ثوابها ما تليت))1فتعز به.

بل قد أودع الخيرية في رجلين وكنتَ طرفاً فقال  :((خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه))رواه البخاري برقم (4739) فأبشر بعظيم الأجر، وقد قيل: في الإشارة ما يغني عن العبارة.

أخي معلم التحفيظ:

إن ثمة أمر مهم أود أن أوقفك عليه لا أدعي أنه جديد عليك، فأنت أعرف الناس به،وأحرص المهتمين على تقعيده ما دمت في كنف التعليم والتربية، لكنني أذكره لك من باب تقريره في النفوس، وتنيبه المغفِل له، الساهي عنه، فهو موضوع ذو بال، بحاجة أن نوليه اهتماماً عظيماً في دربنا، ونصبَّ عليه شأواً كبيراً من تفكيرنا.

أخي معلم التحفيظ:

لعلك أدركت من خلال مسيرتك الحافلة بالعطاء في سبيل إعداد جيل على نمط الجيل الأول أن وظيفتك في الحلقة وظيفة مزدوجة لا تقتصر على الكم دون الكيف، أو الكيف دون الكم،لأن تغليب جانب على آخر يعنى الحكم بالفشل على مسيرتك التعليمية التربوية، وهذا ما يؤكده المطَّلعون في هذا الشأن، فالاقتصار والتركيز على جانب دون آخر كالتلاوة والحفظ مثلاً دون الجانب التربوي السلوكي يؤدي بالضرورة إلى آثار سلبية تشبه في

مجملها الآثار الناجمة عن فصل القول عن العمل، ومن جملتها:

– قصور الرؤية لدى المتعلم.

– ضعف الإبداع والتعامل الحسن مع مختلف المواقف؛ لضعف مساندة بقية الجوانب المختلفة الأخرى في الشخصية للجانب الذهني وقد قال  : ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب))رواه البخاري (22)، ومسلم (1599).

– بقاء بعض العلل والأمراض في شخصيته نتيجة الخلل في التوازن بين مخاطبة كافة جوانبها، والمرض إذا طال بقاؤه؛ استفحل وصعب علاجه.

– ثم القابلية لاكتساب المزيد من الأمراض في الجوانب القلبية والسلوكية؛ نتيجة ضعف التحصين بالتربية والتهذيب العمليين.

وفي الصورة المقابلة:

فإن الاهتمام بالكيف أو بالجانب التربوي فقط، وإهمال الكم أو المادة العلمية، وغض الطرف عن تثبيتها في أذهان الطلاب له مثالب عديد من أبرزها:

– تخريج نماذج حسنة السلوك والأخلاق، ضعيفة الثقة في النفس، لا يقوم سلوكها على أساس راسخ من العلم، وقد قيل: “فاقد الشيء لا يعطيه”، ولا يخفى سريان هذا الضعف إلى الأجيال القادمة، مما يؤثر سلباً على المجتمع ككل.

– ضياع  العلم بفقد أوعيته من الحفاظ والعلماء المحققين.

ولذا فنحن بحاجة لأن نسير في خط متوازن نراعي فيه الأمرين جميعاً الكم والكيف،فنعطي كل ذي حق حقه من الاهتمام والمتابعة، شأننا في ذلك شأن طائر حلَّق في الأفق البعيد براحتي جناحه، ولك أن تتخيل كيف لو جنح بأحد جانبي جناحه لكان ذلك إذن مدعاة لسقوطه، وهكذا أنت لو غلَّبت جانباً على آخر لسقطت في حماة القصور التربوي أو العلمي.

فلا بد أخي معلم القرآن أن يتقرر في أعماقنا هذه الحقيقة، وأن ندرك تماماً أن مهمتنا كمعلمي للقرآن هي تعليمية تربوية في آن معاً، وهذا هو منهج الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم في الجمع بين الجانبين معاً قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(الجمعة:2).

ولعل مما يؤكد أن للكم أهميته وللكيف أهميته ما قاله  : ((تزوجوا الودود الولولد فإني مكاثر بكم الأمم))2،وقوله  : ((تخيَّروا لنطفكم، وانكحوا الأكفاء، وانكحوا إليهم))3 فهما توجيهان متقابلان في قضية واحدة هي قضية النكاح: الأول يهتم بالكم، والثاني يضبط هذا الكم بالكيف.

وهكذا ينبغي أن يكون الأمر في مجال حلقات القرآن الكريم حرص على الكم بجذب أكبر عدد ممكن من الناشئة، وتركيز أكبر قدر ممكن من الحفظ للقرآن في أذهانهم، والوصول بهم إلى الجاهزية الفورية إن صح التعبير في الحفظ والمراجعة من خلال الاهتمام بمنهج المراجعة للطلاب في الحلقة، فكم من الحفاظ عانوا وما زالوا يعانون من ضعف في الحفظ،أو في الجاهزية الفورية بسبب إهمال المحفِّظ للمراجعة، وضعف تركيزها في أذهانهم،والعمل على متابعتهم فيها أولاً بأول.

ثم توجيه هذا الكم بالكيف وذلك بالاهتمام بتربية ذواتهم، وتهذيب سلوكهم، وتوليد الهيبة والتقديس للقرآن، والقناعة الداخلية في نفوسهم باستحقاق القرآن الكريم العمل والجهد في سبيل حفظه ومدارسته، ثم تدبره وتطبيق ما جاء فيه من الأوامر والنواهي أسوة بالنبي  ، وبمنهجه في تربية أصحابه رضوان الله عليهم يقول مؤلف كتاب التعليم الإسلامي أهدافه ومقاصده: “كما يفعل بعض المعلمين ممن يحرصون على الحفظ والإنتاج الكمي في الحلقة فقط، فيفاجأون بأن عليهم الاهتمام أولاً بالكيف من تهيئة وتزكية نفوس الطلاب، وتوليد الباعث الذاتي فيها؛ لكي تقبل على القرآن،

وقد يأخذ منهم ذلك بعض الوقت مما يؤثر سلباً على الإنتاج الكمي من الحفظ والمراجعة الذي يهمهم، ويحدث نوعاً من الشعور بالإحباط لديهم، وهو ما لا ينبغي أن يتصف به معلم كتاب الله، بل عليه أن يوازن بين الكم والكيف”4.

نسأل لنا ولك التوفيق والسداد في المسير، والعون والإلهام من النصير، وحسن العاقبة في نهاية المصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


 1صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1335)، وقال: أخرجه أبو سهل القطان في حديثه عن شيوخه.

2 رواه أبو دواد برقم (2052)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (5215).

3 رواه ابن ماجه برقم (1968)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (5239).

4 التعليم الإٍسلامي أهدافه ومقاصده (ص 108) محمد النقيب.