قراءة القرآن عبر مكبر الصوت قبل صلاة الفجر والجمعة

قراءة القرآن عبر مكبر الصوت قبل صلاة الفجر والجمعة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من البدع والمحدثات في الدين لما فيها من إفساد للدين، وتنقص للشرع، واتهامه بأنه غير كامل.

لكن ما فتئ الناس يحدثون ويبتدعون في دين الله، ومن هذه البدع ما يتعلق بقراءة القرآن الكريم عبر مكبرات الصوت قبل صلاة الجمعة، وكذا قبل صلاة الفجر، وستكون هي مدار حديثنا:

فإن القرآن الكريم نزل ليتدبر، ويفهم معناه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم سنته، وحذر من مخالفتها، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يفعل شيئاً من هذه البدع قبل صلاة الفجر، ويوم الجمعة، فإن الثابت عنه أن أمر بأذانين في الفجر، يكون الأول قبل الفجر حتى يوقظ النائم، ويرجع القائم، ويكون الأذان الثاني هو النداء للصلاة، وكذلك يوم الجمعة كان يسلم على الناس، ثم يشرع المؤذن في الأذان، أما أنه كان يجعل أحد أصحابه يقرأ القرآن قبل صلاة الفجر، أو قبل ظهر الجمعة؛ فهذا ما لم يحدث، ولم يفعله أحد من أصحابه من بعده وهم خير القرون على الإطلاق، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وإنما أحدثه المتأخرون من أهل الإحداث والابتداع زيادة في الدين؛ ظناً منهم أن هذا العمل خير وقربة ومصلحة، وأي خير وقربة في مخالفة سنته، بل هي من البدع المحدثة التي حذر منها فقال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات فإن كل بدعة ضلالة))1.

فلا قول بعد قوله، فإنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ الدين كاملاً، ومن زعم أن هذه المحدثات من الدين فقد زعم أن الدين لم يكتمل قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}(المائدة:3).

وقد سئلت اللجنة الدائمة عن هذا الأمر:

س/ هل تجوز قراءة القرآن في المسجد بصوت مرتفع، وفي مكبر الصوت قبل صلاة الفجر، والجمعة، وبعض الصلوات، ويكون هناك من يصلي السنة القبلية أو تحية المسجد؟

ج/ القرآن كلام الله جل وعلا، وتلاوته عبادة من العبادات البدنية المحضة، والمستمع يثاب على استماعه، ولكن إذا ترتب على رفع الصوت به أذى؛ فينبغي خفض الصوت إلى درجة يزول بها الأذى، وما ذكر في السؤال من تخصيص وقت قبل الصلاة لقراءة القرآن في المسجد بصوت مرتفع لا نعلم له أصلاً.2

وأيضاً فإن هذه البدعة يترتب عليها مفاسد ومنها:

1- إزعاج النائمين وإيذائهم بذلك، وقد حرَّم الإسلام أذية المسلم.

قال ابن الجوزي رحمه الله: "وقد لبَّس إبليس على قوم من القراء فهم يقرأون القرآن في منارة المسجد بالليل بالأصوات المجتمعة المرتفعة الجزء والجزأين، فيجمعون بين أذى الناس في منعهم من النوم، وبين التعرض للرياء، ومنهم من يقرأ في مسجده وقت الأذان لأنه حين اجتماع الناس في المسجد"3، والمقصود أن القراءة بمكبر الصوت أشد إيذاء وإزعاجاً.

2- أن فيها تركاً للسنة في مثل هذا الوقت وهو الاستغفار والدعاء، فهو وقت نزول الرب جل جلاله، فينبغي أحياؤه بالذكر والاستغفار لا بالبدع والمحدثات.

3- أن القراءة قبل صلاة الجمعة تشوش على الناس قراءتهم للقرآن، فعندما يكون مكبر الصوت مفتوحاً بالقراءة والناس يقرؤون فإنه يشوش عليهم، وقد جاء النهي الشرعي عن ذلك فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة وهو في قبة له، فكشف المستورة وقال: ((ألا إن كلكم يناجي ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة في الصلاة))4 قال الباجي: "لأن في ذلك أذى ومنعاً من الإقبال على الصلاة، وتفريغ السر لها، وتأمل ما يناجي به ربه من القرآن"5.

وسُئل الشيخ ابن جبرين رحمه الله عن ذلك فقال: "نرى أنه لا يجوز رفع الصوت بالقرآن قبل صلاة الجمعة إذا كان القارئ يقرأ على المنبر، أو فوق المنارة، أو في مكبر الصوت، وذلك لأنه يشوش على المصلين والمتنفلين، وكذلك قراءة المؤذن فوق المنارة للمدائح النبوية هذا أيضاً بدعة، وإذا كان كذلك فإنه يشغل القارئ عن تدبر القرآن، والمصلي عن الإقبال على صلاته"6.

4- أن في ذلك تركاً للمشروع من الأذان الأول في الجمعة الذي سنَّه الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وممن نص على أن ذلك من البدع المحدثة شيخ الإسلام ابن تيمية فقال رحمه الله تعالى: "وأما ما سوى التأذين قبل الفجر من تسبيح، ونشيد، ورفع الصوت بدعاء، ونحو ذلك في المآذن؛ فهذا ليس بمسنون عند الأئمة، بل قد ذكر طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد أن هذا من جملة البدع المكروهة، ولم يقم دليل شرعي على استحبابه، ولا حدث سبب يقتضي إحداثه حتى يقال إنه من البدع اللغوية التي دلت الشريعة على استحبابها، وما كان كذلك لم يكن لأحد أن يأمر به، ولا ينكر على من تركه، ولا يعلق استحقاق الرزق به، وإن شرطه واقف، وإذا قيل إن في بعض هذه الأصوات مصلحة راجحة على مفسدتها فيقتصر من ذلك على القدر الذي يحصل به المصلحة دون الزيادة التي هي ضرر بلا مصلحة راجحة، فهذا قول بلا دليل"7.

وعليه فكل ما أحدث قبل الفجر، أو قبل الجمعة من رفع الصوت سواء كان تسبيحاً، أو قراءة قرآن أو غيره كله من البدع، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "ما أحدث من التسبيح قبل الصبح، وقبل الجمعة، ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جملة الأذان؛ وليس كذلك لا لغة ولا شرعاً"8.

وأما ما يقوله بعض الناس أن هذا ذكر، وقد تعودنا عليه، وأنه يفعله بعض أئمة المساجد، فالجواب عن ذلك ما قاله العلامة الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – وقد سئل عن ذلك: "من العادات المعروفة التي يعمل بها معظم المسلمين في (….) وفي المركز الإسلامي (….) يوم الجمعة أنه بعد النداء الأول يتولى أحد المقرئين تلاوة القرآن الكريم من خلال مكبر الصوت حتى قرب صعود الإمام على المنبر لأداء الخطبة، وقد وقع خلاف مؤخراً حول هذا العمل فطائفة العوام يقولون: إن هذا العمل قد ألفناه، ونحن نستفيد منه، ونتعلم تلاوة القرآن، ونخشع له من خلال ما نسمع في هذا الوقت الذي قد لا يتسنى لنا مثله في غيره، فبقاؤه واستمراره ظاهر الفائدة لنا، وطائفة المتعلمين يقولون: إن هذا أمر محدث ولا أصل له، بل يشغل المصلين عن الذكر والاستغفار، وتلاوة القرآن، وصلاة التطوع، فلابد من العدول عنه لكونه مبتدعاً، فما الحكم الشرعي في هذه المسألة حتى يعمل به ويسار في ضوئه؟

فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أن هذا بدعة كما قاله ذووا العلم من إخواننا في (….)، لأن ذلك لم يعهد في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين والصحابة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم على أصحابه وهم يقرؤون ويجهرون بالقراءة، ويصلون، فقال: ((لا يجهر بعضكم على بعض في القرآن)) أو قال: ((في القراءة))، وعليه فالواجب العدول عنه، والعامة لا يؤخذ بقولهم إثباتاً ولا نفياً، المرجع للعامة وغير العامة إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأَْخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، ولكن ينبغي أن يبين للعوام أن هذا شيء لم يكن في عهد السلف الصالح، وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ثم يقال لهؤلاء العوام: بقاء الأمر متروكاً للناس هذا يقرأ، وهذا يصلي، وهذا يحدِّث أخاه بما ينفعه، وهذا يذكر، خير من كونهم ينصتون إلى قراءة قارىء يكون بعضهم نائماً، وبعضهم يفكر في أمور أخرى؛ حتى يقتنعوا بذلك، ولست أقول هذا بمعنى أننا لا نترك هذا الفعل إلا إذا اقتنع العامة، لكن أريد أن يطمئن العامة لترك هذا الشيء، وإلا فتركه أمر لا بد منه"9.

وبهذا نعلم أن هذا الأمر من البدع والمحدثات التي ينبغي على الأئمة والمؤذنين تركها لعدم وردود الدليل على ذلك، ومعلوم أن العبادات من الأمور التوقيفية التي لا يجوز الزيادة فيها، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم

وكل خير في اتباع من سلف        وكل شر في ابتداع من خلف

نسأل الله أن يجنبنا البدع والزلل، وأن يثبتنا على سنته، والحمد لله رب العالمين.

 


1 رواه ابن ماجه برقم (42)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (2735).

2  فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (4/40)، جمع: أحمد بن عبد الرزاق الدويش، الناشر: الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء.

3 تلبيس إبليس (175) لأبي الفرج ابن الجوزي، تحقيق: د. السيد الجميلي دار النشر: دار الكتاب العربي – بيروت – الطبعة الأولى 1405هـ- 1985م.

4 رواه البيهقي في السنن الكبرى (3/11) برقم (4479) تحقيق: محمد عبد القادر عطا، الناشر: مكتبة دار الباز – مكة المكرمة، 1414-1994م. وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، المستدرك على الصحيحين (1/454) برقم (1169) لأبي عبدالله الحاكم النيسابوري، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت الطبعة الأولى 1411هـ – 1990م.

5 تنوير الحوالك شرح موطأ مالك (1/78) لعبد الرحمن بن أبي بكر أبو الفضل السيوطي، دار النشر: المكتبة التجارية الكبرى مصر 1389هـ- 1969م.

7 الاختيارات الفقهية لابن تيمية (1/39) اختارها علي بن محمد بن عباس البعلي، الناشر: مكتبة الرياض الحديثة – الرياض.

8 فتح الباري شرح صحيح البخاري (2/92) أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب، دار النشر: دار المعرفة – بيروت.

9 مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن صالح العثيمين (16/128) جمع وترتيب: فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، الناشر :دار الوطن – دار الثريا – الطبعة الأخيرة 1413هـ.