استقبال جانبي السترة

استقبال جانبي السترة

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خيرة الخلق أجمعين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن كل مسلم أسلم وجهه لله تعالى وحده لا شريك له؛ يسعى في كل عباداته لإرضاء ربه تبارك وتعالى، وأن تكون عبادته أكمل وأحسن وأفضل، ومن أعظم العبادات في الإسلام عبادة الصلاة؛ إذ هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي العبادة الوحيدة التي فرضت علينا ونبينا عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة؛ لهذا أحببنا أن ندرس في هذا المقال مسألة من مسائل الصلاة هي السترة في الصلاة ماذا يستقبل منها المصلي: يمينها، أم شمالها، أم يصمد لها صمداً؟

اتفق أهل العلم على مشروعية اتخاذ المصلي سترة له في صلاته، قال ابن قدامة: "لا نعلم في استحباب ذلك خلافا, والأصل فيه  أن النبي صلى الله عليه وسلم كان تركز له الحربة فيصلي إليها , ويعرض البعير فيصلي إليه "1، ثم بعد ذلك اختلفوا فيما يستقبل المصلي ، وكأننا بالقارئ الكريم يقول: ما دامت المسألة محل خلاف فسأعمل بما أريد من تلك الأقوال، وليس لأحد أن ينكر عليّ؛ إذ "لا إنكار في مسائل الخلاف"، لكن نقول لك: لتعلم أيها الموفق أنه ليس كل مسألة يثبت خلاف العلماء فيها؛ لك أن تعمل بما أردت من أقوالها؛ إذ من المقرر عند العلماء أن الخلاف المعتبر هو ما كان له حظ من دليل أو نظر:

وليس كل خلاف جاء معتبراً             إلا خلاف له حظ من النظر

فلا يصح أن يطلق على الخلاف أنه سائغ حتى تحف به الأدلة الشرعية والبراهين؛ والمسلم متعبد بالشرع لا بالرأي والعقل، ثم إن الإنسان المسلم يسعى في أمر دينه إلى البحث عن الأكمل والأعظم أجراً، والأقرب للدليل، وفي مسألتنا هذه -وإن كانت ليست من قبيل الواجبات الشرعية – نحتاج للنظر فيها من باب الوصول إلى تحصيل الوجه ا لموافق لسنته صلى الله عليه وسلم، فيعبد المسلم ربه على بصيرة، وتطمئن نفسه بعد أن يرى أنه قد بلغ وسعه في طلب الأحسن في عبادة الله تعالى، وبخاصة حين يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ مرة بيد معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقال له: ((إني لأحبك يا معاذ، فقال معاذ: وأنا أحبك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تدع أن تقول في كل صلاة: رب أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك))2، لذا كان على المسلم أن يسعى لتحسين عبادته قدر استطاعته، وأن يدعو ربه بأن يوفقه لذلك.

إذا علمت هذا أيها المسلم الكريم فاعلم أن اتخاذ المصلي سترة له يُعدّ من تحسينه لعبادة ربه؛ حيث اتبع فيها أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وسنته، وقبل استعراض أقوال العلماء فيما يستقبل منها؛ فلننظر هل ورد دليل شرعي بخصوص هذه المسألة؟

عند البحث نجد أنه قد ورد حديث في هذه المسألة عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها رضي الله عنه قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عودٍ، ولا عمود، ولا شجرة؛ إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد (أي لا يجعلها تلقاء وجهه بين عينية) له صمداً"3.

فإذاً لم يبق معنا الآن إلا سؤال واحد لنعمل بهذا الحديث وهو: هل صح هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟

الجواب: ذكر الزيلعي في نصب الراية أن هذا الحديث أخرجه أبو داود، وأحمد في مسنده، والطبراني في معجمه وابن عدي في الكامل، قال: "وأعلَّه بالوليد بن كامل، ونقل عن البخاري أنه قال: عنده عجائب، وأما ابن القطان فإنه ذكر فيه علتين: علَّة في إسناده، وعلَّة في متنه، أما التي في إسناده فقال: إن فيه ثلاثة مجاهيل …"4، وضعَّف الحديث النووي في المجموع5، والألباني في ضعيف أبي داود6، فالحديث فيه مجاهيل واضطراب، وقد تكلم في إسناده بل ومتنه جبال الجرح والتعديل وجهابذته؛ وبهذا لا يرتقي هذا الحديث إلى درجة العمل به، والله أعلم.

لكن بالرغم من هذا فإن من الفقهاء من يستدل بهذا الحديث إما لعدم علمه بضعفه، أو أنه قد يرى أن العمل بهذا الحديث الضعيف أولى من العمل برأي عالم من العلماء، لأجل ذلك نتجت لنا خمسة أقوال لعلماء الأمة – رفع الله شأنهم – في هذه المسألة هي:

القول الأول: يُمِيل السترة عن وجهه يمينا : نظر أصحاب هذا القول إلى ظاهر قول المقداد: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عودٍ، ولا عمود، ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمداً"، فرأوا أنه قد بدأ باليمين قبل اليسار، ولهذا قال الشوكاني – رحمه الله – في نيل الأوطار: "قال ابن رسلان: ولعل الأيمن أولى، ولهذا بدأ به في الحديث يعني في رواية أبي داود…ويكفي في دعوى الأولوية حديث ((أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله))"7.

القول الثاني: يُمِيل السترة عن وجهه يسارا: وما زال احتجاج هؤلاء أيضاً هو الحديث السابق، لكن أخذ هؤلاء بعلَّة خفية فيه، فقالوا: "وقد يؤخذ منه أن الأيسر أولى من الأيمن، ويوجه بأنه مانع للشيطان الذي هو على الأيسر"8.

القول الثالث: يحاذي أحد الجانبين ولا يصمد: ويرى أصحاب هذا القول أنه لا يُحجر على أحد بالتزام جهة محددة، ولكن يعمل بأثر المقداد على ظاهره المتبادر، فهو ذكر الأيمن أو الأيسر، ولم يخصص إحدى الجهتين، فالمهم أنه لا يصمد، ولكن ينحرف عنه يسير9.

لكن أصحاب هذا القول زادوا علَّة ثانية لهذا الانحراف اليسير وهي: حذراً من التشبه بعبادة الأصنام10؛ حيث أنهم يستقبلونها مباشرة لا ينحرفون عنها.

القول الرابع: يكره الصمود في غير السترة العريضة: فقالوا: " يكره أن يصمد إليها إلا في نحو جدار عريض يعسر فيه ذلك"11؛ لأن الجدار العريض أو ما يشبهه يصعب معه استقبال طرفه الأيمن أو الأيسر، لكن العمود أو ما يشبهه يمكن أن ينطبق عليه هذا العمل، وهذا القول نعتبره مخصصاً لكراهة الصمود، حيث أنهم لا يرون أن تلك الكراهة مطلقة، بل مخصصة بما إذا كانت السترة غير عريضة يشق معها الانحراف يميناً أو يساراً.

القول الخامس: الأمر في هذا واسع: والقائلون بهذا هم الذين يرون أن "الحديث الذي ورد في هذا – حديث المقداد – ليِّن فيه شيء من الضعف، وظاهر الأدلة أن السترة تكون بين يدي المصلي تماماً، وأنه يستقبلها بدون أن تكون عن يمينه، أو عن شماله، والأمر في هذا واسع؛ إن صمد إليها صمداً فلا بأس، والإنسان بعيد عن أن يجعلها كالصنم، وإن جعلها عن يمينه أو عن يساره شيئاً ما فلا بأس"12 قال ابن عبد البر: "وأما استقبال السترة والصمد لها فلا تحديد في ذلك عند العلماء، وحسب المصلي أن تكون سترته قبالة وجهه"13.

والذي يظهر من تلك الأقوال – والعلم عند الله تعالى – أن القول الأخير هو القول الأقرب للصواب؛ لأمور:

أولاً: ضعف حديث المقداد على ما تبين لنا من أقوال مجموعة من كبار علماء الحديث.

ثانياً: أننا لا يصح أن نتعبد الله تعالى بشيء لم يثبت فيه دليل شرعي صحيح.

ثالثاً: إن وافق تعبدنا لله تعالى بعض تصرفات الكافرين؛ فليس هذا دليل على بطلان ما نحن عليه؛ لأن الله قد شرعه لنا، فلا يعني مثلاً إعفاء بعض اليهود أو النصارى للحاهم أن إعفائنا لها يكون من موافقة الكافرين؛ لأنه قد ورد في شرعنا ما يحثنا على ذلك، فلا عبرة بموافقتهم لنا في ذلك.

والحمد لله رب العالمين


 


1 المغني (2/36).

2 أخرجه النسائي في سننه برقم (1303) وصححه الألباني في المشكاة برقم (949).

3 رواه أبو داود برقم (594)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود برقم (109)، دار النشر: مؤسسة غراس للنشر و التوزيع – الكويت،  الطبعة الأولى 1423 هـ.

4 نصب الراية لأحاديث الهداية (2/83) لعبد الله بن يوسف أبو محمد الحنفي الزيلعي، دار النشر: دار الحديث – مصر 1357 تحقيق: محمد يوسف البنوري.

5 المجموع شرح المهذب (3/219) للإمام أبي زكريا محي الدين بن شرف النووي، الناشر: دار الفكر بيروت 1997م كما ضعفه محققوا مسند أحمد ط الرسالة (39/243)، الطبعة الأولى 1421هـ – 2001م.

6 ضعيف أبي داود – الأم (1/250)، دار النشر: مؤسسة غراس للنشر و التوزيع – الكويت، الطبعة الأولى 1423 هـ.

7 نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار (3/5) لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني، الناشر: إدارة الطباعة المنيرية مع الكتاب: تعليقات يسيرة لمحمد منير الدمشقي.

8 مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/455)، تأليف: علي بن سلطان محمد القاري، دار النشر: دار الكتب العلمية – لبنان/ بيروت 1422هـ – 2001م، الطبعة الأولى تحقيق: جمال عيتاني.

9 المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (2/39)، لعبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد، الناشر: دار الفكر – بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (1/200) لمحمد الخطيب الشربيني، الناشر دار الفكر – بيروت.

10مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/455) لعلي بن سلطان محمد القاري، دار النشر: دار الكتب العلمية – لبنان/ بيروت 1422هـ – 2001م، الطبعة الأولى، تحقيق: جمال عيتاني.

11 حاشية قليوبي على شرح جلال الدين المحلي على منهاج الطالبين (1/219) لشهاب الدين أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي، تحقيق مكتب البحوث والدراسات، الناشر دار الفكر / لبنان – بيروت.

12 مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (13/241) لمحمد بن صالح ابن عثيمين.

13 التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (4/197) لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، دار النشر: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب 1387هـ، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي، ‏محمد عبد الكبير البكري.