العقوبات

العقوبات وأسبابها

 

العقوبات وأسبابها

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلائق أجمعين، محمد وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:

فإن الله منزه عن كل عيب ونقص، فهو الموصوف بكمال العدل، ومن تمام عدله أنه لا يظلم الناس شيئاً، والله لم ينزل أي عقوبة بالناس إلا بسبب فعلوه، وجُرمٍ اقترفوه، قال-تعالى-:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}سورة الشورى(30). وقال-تعالى-:{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} سورة النساء (79).وما تحل من عقوبة بالخلق إلا لحكم يعلمها الله،من أن تكون هذه العقوبة سبباً في عودة من كان شارداً بعيداً عن الله، وليزداد الطائع القريب منه قرباً وأجراً وثواباً؛ فمن أسباب هذه العقوبات التي ينزلها الله بالناس ما يلي:

 

1.  استضعاف العباد وظلمهم؛ قال-تعالى-: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَـاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} الكهف(59). وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(ما من ذنبٍ أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)1. وقال-صلى الله عليه وسلم-:(إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)2. وهذه العقوبة تنزل بمن أراد الله حالاً، وقد يؤخر الله عقوبة الظلم إلى أجل يعلمه الله؛ فعن أبي موسى-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته) قال: ثم قرأ: {وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَـالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} سورة هود(102)3.

 

2.  ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو التقصير في القيام به، قال الله:{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة الأنفال(25).فإذ فشت المنكرات،وقصر الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ عمَّ اللهُ الجميعَ بالعُقُوبةِ؛ فعن زينب بنت جَحْشٍ أنه دخل النبي-صلى الله عليه وسلم- عليها فَزِعًا يقولُ: (لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه). وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحشٍ: فقلت: يا رسول الله, أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثر الخبث)(4). فإذا أصبحت المعصية في المجتمع ظاهرة ومألوفة، ولم ينكرها الناس فحينها تعمُّ العقوبةُ الجميعَ، ثم يُبعثون على نيَّاتهم؛ لقولِهِ-عليه الصلاة والسلام-:(والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر,أو ليوشكن اللهُ أن يبعث عليكم عقاباً منه,ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم)5. وعن عبد الله بن عمر, قال: أقبل علينا رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-, فقال: (يا معشر المهاجرين, خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن:لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)6. ولكن ينبغي أن يُعلم أن العقاب الدنيوي الذي ينزل بالجميع لا يعني اشتراك الجميع في العذاب في الآخرة، بل كلٌّ يُحاسب عن عمله؛ فعن أم سلمة مرفوعاً: (إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمَّهم اللهُ -عز وجل- بعذاب من عنده). فقلت: يا رسول الله أما فيهم يومئذٍ أناسٌ صالحون؟ قال: (بلى؟).قالت: فكيف يصنع أولئك؟ قال: (يصيبهم ما أصاب الناس,ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان)7. قال القرطبي -رحمه الله-:فإن قيل: فكيف يعُم بالهلاك مع أن فيهم مؤمناً ليس بظالم, قيل: يجعل هلاك الظالم انتقاماً وجزاءاً, وهلاك المؤمن معوضاً بثواب الآخرة؛ وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر, قال سمعتُ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-, يقول: (إذا أراد اللهُ بقومٍ عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم)8.

 

4.  العتو والكبر والغرور؛ قال-تعالى-: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} سورة النجم(50-52). قال الإمام أبو جعفر الطبري-رحمه الله-:يقول- تعالى- ذكره: وأنه أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، إنهم كانوا هم أشد ظلماً لأنفسهم، وأعظم كفراً بربهم، وأشد طغياناً وتمرداً على الله من الذين أهلكهم من بعد من الأمم، وكان طغيانهم الذي وصفهم الله به، وأنهم كانوا بذلك أكثر طغياناً من غيرهم من الأمم9. وقال:{أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} سورة الروم(9). قال ابن كثير -رحمه الله-: كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم.. وأكثر أموالاً وأولاداً، وما أوتيتم معشار ما أوتوا، ومكنوا في الدنيا تمكيناً لم تبلغوا إليه، وعمروا فيها أعماراً طوالاً، فعمروها أكثر منكم، واستغلوها أكثر من استغلالكم10.

 

5.  كفران النعم، قال-تعالى-:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} سورة إبراهيم(7). يقول الطبري في بيان معنى الآية:ولئن كفرتم أيها القوم نعمة الله فجحدتموها بترك شكره عليها وخلافه في أمره ونهيه وركوبكم معاصيه إن عذابي لشديد، أعذبكم كما أعذب من كفر بي من خلقي11. وقد قص الله علينا في كتابه مصارع الأمم التي كفرت بنعم الله؛ فقال- تعالى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} سورة النحل(112). قال المناوي-رحمه الله-: ما زال شيء عن قوم أشد من نعمة لا يستطيعون ردها، وإنما ثبتت النعمة بشكر المنعم عليه للمنعم، وفي الحِكم: من لم يشكر النعمة فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقاله12. وقال الله: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} سورة الأنفال(53). قال الطبري -رحمه الله-: يقول- تعالى ذكره-: إن الله لا يغير ما بقوم من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضاً واعتداء بعضهم على بعض، فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره13. وأسباب العقوبات كثيرة، ولكن حسبنا التذكير بنعم الله، وما يجب علينا نحوها، والتحذير من أسباب العقوبات، والتنفير منها، والله نسأل الله أن يحفظنا من كل سوء ومكروه.


 


1 – رواه الترمذي وأبو داود وأحمد، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم(4098). وصحيح ابن ماجة رقم(4211).

2 – رواه أبو داود والترمذي وأحمد، وهو في السلسلة الصحيحة برقم(1564).

3 – رواه البخاري.

4 – رواه البخاري ومسلم.

5 – رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن ورواه أحمد، وصححه الألباني

6 – رواه ابن ماجه، وصححه الألباني رقم (3246).

7 – رواه أحمد، وحسنه الألباني في  

8 – الجامع لأحكام القرآن (10/120).

9 – جامع البيان في تأويل القرآن للطبري (27/78).

10 – تفسير القرآن العظيم (3/428).

11 -جامع البيان في تأويل القرآن للطبري(13/186).

12 – فيض القدير (3/41).

13– جامع البيان في تأويل القرآن للطبري (13/121).