المشتاقون إلى الجنة

المشتاقون إلى الجنة

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الجنة سلعة الله الغالية؛ لكنها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب، ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات))1.

بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها             تنال إلا على جسر من التعب

ورحم الله ابن القيم إذ يقول في وصفه للجنة:

يا سلعة الرحمن لست رخيصة      بل أنت غالية على الكسلان

يا سلعة الرحمن ليس ينـالها         في الألف إلا واحد لا اثنان

يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها         إلا أولو التقوى مع الإيمان

يا سلعة الرحمن سوقك كاسد       بين الأراذل سلفة الحيوان

يا سلعة الرحمن أين المشتري         فلقد عرضت بأيسر الأثمان

يا سلعة الرحمن هل من خاطب     فالمهر قبل الموت ذو إمكان

يا سلعة الرحمن كيف تصبَّر الـ    خطَّاب عنك وهم ذوو إيمان

يا سلعة الــرحمن لولا أنها        حجبت بكل مكاره الإنسان

ما كان عنها قط من متخلف        وتعطـلت دار الجزاء الثاني

لكنها حجبت بكـل كريهة        ليصد عنـها المبطل المتواني

وتنالها الهمــم التي تسمو إلى     رب العـلى بمشيئة الرحمن2

فلما عظُمَ نعيم الجنة اشتاقت لها القلوب، وتطلعت لها النفوس، وود كل الناس دخولها، وتمنّوا وصولها؛ إلا أنهم انقسموا إلى فريقين:

فريق جعل الشوق إليها مجرد أنشودة يرددها، أو عبارات يترنم بها، وحاله كما قال القائل:

وكل يدعي وصلاً لليلى             وليلى لا تقر لهم بذاكَ

وفريق آخر بعثه شوقه إلى العمل والجد والاجتهاد، والبذل والتضحية والسخاء؛ فجاد بنفسه قبل ماله، وبروحه قبل متاعه، وذلك كحال:

·   ذلك الأعرابي الذي جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فآمن به واتبعه، فقال: أهاجر معك، فأوصى به بعض أصحابه؛ فلما كانت غزوة خيبر غنم الرسول – صلى الله عليه وسلم – شيئاً فقَسَمَه وقَسَم للأعرابي، فأعطى أصحابه ما قَسَم له، وكان يرعى ظهرهم؛ فلما جاء دفعوا إليه فقال: ما هذا؟ قالوا: قِسْم قسمه لك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأخذه فجاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: ما هذا يا رسول الله؟ قال: ((قِسْم قسمته لك)) قال: ما على هذا تبعتك، ولكن اتبعتك على أن أُرمى ها هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال: ((إن تَصْدُقِ الله يصدقْكَ))، ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأُتي به للنبي – صلى الله عليه وسلم – وهو مقتول، فقال: ((أهو هو))؟ قالوا: نعم، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- : ((صدق اللهَ فصدقه))3.

هذه حال المشتاقين إلى الجنة، لا يهدأ لهم بال، ولا يستقر لهم قرار، حتى يصلوا إلى مقصودهم ومبتغاهم؛ ولو أدى إلى مفارقة الأهل والولد، بل وفصل الرأس عن الجسد؛ وذلك كحال:

·   الصحابي المشتاق إلى الجنة عمير بن الحُمَام – رضي الله عنه – عندما قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – يوم بدر لأصحابه: ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)) فقال: عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: ((نعم)) قال: بخٍ بخٍ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما يحملك على قول بخٍ بخٍ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: ((فإنك من أهلها))، فأخرج تمرات من قَرَنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييتُ حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة، ثم قاتلهم حتى قُتِلَ4.

وهكذا نرى أحوال المشتاقين إلى الجنة دائماً يتقلبون بين الطاعة والقربة، والبر والخير؛ فمنهم الصائم يوماً المفطر يوماً، ومنهم القانت آناء الليل وآناء النهار يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، ومنهم المتصدق بماله كله، ومنهم من بذل روحه رخيصة من أجل الله، وهذا هي حقيقة الاشتياق، وفي ذلك يقول ابن القيم – رحمه الله -: "لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }(آل عمران:31)، فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الرسول في أفعاله وأقواله، وقيل لا تقبل العدالة إلا بتزكية: {يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم}(المائدة:54) فتأخر أكثر المدعين للمحبة، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فسَلَّموا ما وقع عليه العقد، فإن: {الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين، فلما رأى التجار عظمة المشتري، وقدر الثمن، وجلالة قدر من جرى عقد التبايع على يديه، ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه هذا العقد؛ عرفوا أن للسلعة قدراً وشأناً ليس لغيرها من السلع، فرأوا من الخسران البين، والغبن الفاحش؛ أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة تذهب لذتها وشهوتها وتبقى تبعتها وحسرتها، فإن فاعل ذلك معدود في جملة السفهاء، فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان رضىً واختياراً من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، فلما تم العقد، وسلموا المبيع قيل: لهم قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا، والآن فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعاف أموالكم معها: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون}(آل عمران:69) لم نبتع منكم نفوسكم وأموالكم طلباً للربح عليكم، بل ليظهر أثر الجود والكرم في قبول المعيب والإعطاء عليه أجل الأثمان، ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن"5.

فاللهم ارزقنا الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول أو عمل أو اعتقاد، ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول أو عمل أو اعتقاد، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه مسلم برقم (5049).

2 القصيدة النونية لابن القيم (2/352).

3 رواه النسائي برقم (1927)، وصححه الألباني في صحيح النسائي برقم (1953).

4 رواه مسلم برقم (3520).

5 زاد المعاد (3/64).