متى يكون الإنسان فقيهاً

متى يكون الإنسان فقيهاً؟

الشيخ: محمد صالح المنجد

الجمعة 5/3/1431هـ

عناصر الموضوع:

1.    الفقه وفوائده.

2.    متى يكون الإنسان فقيهاً.

3.     ضوابط للفقيه مع شواهد من فقه السلف.

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

 

الفقه وفوائده

فإن الفقه أمر جميل، وقد ندب الله إليه وأمر به: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ} (سورة التوبة: 122)، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن منزلة من يفقه عند رب العالمين، ومحبة الله له، فقال عليه الصلاة والسلام: ((من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)) البخاري(6882)، ومسلم(175).

والفقه: هو الفهم، ومعرفة معاني الكلام ومراميه، وإنزاله منازله، فهم الشيء الدقيق، وما يرمي إليه من الأغراض، وقد جاء في التنزيل: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ } (سورة هود: 91)، فلا ندرك مرامي كلامك، ولا نفهمه، قالوه استخفافاً به -عليه السلام-، وفي الحقيقة أنه لم تكن لهم قلوب يفقهون بها، ولا أعينٌ يبصرون الحق بها، ولا آذان يسمعون الحق بها.

ليس الفقه حفظ النصوص واستعراضها، وإنما الفقه: الفهم عن الله ورسوله، ومعرفة النفس ما لها وما عليها، إنما الفقيه الذي يخاف الله -عز وجل-.

قال الحسن -رحمه الله-: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع الكافّ عن أعراض المسلمين، والعفيف عن أموالهم، الناصح لهم، لا يهمز من فوقه، ولا يسخر بمن دونه، ولا يبتغي على علم علمه الله -تعالى- أجراً.

من فوائد الفقه: أنه يهتدي به الرجل إلى وجه الصواب في العمل، ويفرق به بين الخطأ والصواب، والمعروف والمنكر، والمفضول والفاضل، والمقبول والمردود، والذي يجزئ والذي لا يجزئ، على ضوء من أدلة الشرع، وفهم كلام الشارع، ويعرف بالفقه هل هذا واجب أم مستحب؟ وهل هذا حرام أم مكروه أم مباح؟ وهل هذا فرض عين على كل أحد أم فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين؟ وهل هو واجب موسع؟ (كفارة اليمين، النذر، وقتها موسع) أم واجب مضيق، (فيجب قضاء رمضان الماضي قبل دخول رمضان الجديد)، فيعطي كل شيء حقه، ويضع الأشياء على مواضعها، وبالفقه يمكن التوصل إلى ترتيب الأولويات، ومعرف المقدم: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ}، وذم الله قوماً بعد أن مدح هؤلاء فقال: {فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (سورة النساء: 78)، هذا الفقه عمق الاستنباط، ودقة الفهم، والقدرة على الغوص في نصوص الشرع، وقد كان لذلك رواد منهم: عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- الذي دعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((اللهم فقهه في الدين))البخاري(143)، فقد كان يستخرج من النصوص كنوزها، ويدرك معاني الكلام ومراميه، وكانت أرضه من أطيب الأراضي وأخصبها: قبلت الهدى والعلم، فأنبتت من كل زوج كريم.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: كانت همة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط، وتفجير النصوص وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها.

متى يكون الإنسان فقيهاً

وهذا الفقه الذي يُعمل في القضايا، فتنقلب به المباحات إلى طاعات، ويؤجر عليه الإنسان، فيكون الفقيه حسن المتاجرة مع الله، مباحاته عبادات يثاب عليها بالفقه، قال معاذ -رضي الله عنه-: "إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"، وهذا من جواهر الكلام، فإن صاحب هذا يقطع طريقاً إلى الله عظيماً لا يقطعه غيره في ذات العمر والمدة.

ومن فقه الإنسان: حرصه على الأعمال التي يكثر أجرها، فهو يعلم ما هو أحب الأعمال إلى الله فيقوم به، فهذا من فقهه، وهو يعلم ما هو الأفضل عند الله فيتبعه: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ } (سورة البقرة: 271) ، فإذاً إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، بناء المساجد عبادة، وإقامة الأمور المادية فيها طاعة، ولكن هنالك عمران آخر للمساجد هو أعظم: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (سورة التوبة: 19).

وهكذا لا يسوّي الفقيه بين الواجب والمندوب لا في القول ولا في الفعل ولا في الاعتقاد، كما لا يسوّي بين الحرام والمكروه، ولا بين المباح والمكروه أو المستحب، وانشغال الإنسان بتتبع هذا يوجد لنفسه به أجراً عظيماً عند الله، وهذه مرحلة لا يقطعها إلا أهل البصائر والصدق من أولي العلم، الذين أنزلوا الأعمال منازلها وأعطوها حقها.

الفقه: هو الذي يجعل المفطرين يذهبون بالأجر، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلاً صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوّام وقام المفطرون فضربوا الأبنية، (أي الخيام) وسقوا الركاب (أي الدواب)، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ذهب المفطرون اليوم بالأجر))البخاري(2733)، ومسلم(101)، حين قاموا بوظائف ذلك الوقت، وما ينبغي عمله، وخدمة إخوانهم، فأجر الخدمة في الغزو أعظم من أجر الصيام فيه؛ للتقوي على الجهاد، وطلب العلم، والقيام بما يحتاجه المسلمون وما تحتاجه دوابّهم.

ولما خرج النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى مكة في رمضان ((صام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس)) رواه البخاري(1842) ومسلم(88) لأنه علم مشقتهم وحالهم، وهكذا فعل شيخ الإسلام لما نزل العدو دمشق في رمضان، (أي التتر) أفتى بالفطر للتقوي على الجهاد، وقال: "هو أولى من الفطر في السفر"، فاستعمال الرخصة في محلها هو من الفقه، والله -عز وجل- يحب أن تؤتى رخصه في مثل هذه المواضع.

وقد يصل الجهل بمراتب الأعمال إلى حد تضييع أصل الأجر نفسه، وقد لبّس إبليس على بعض المتعبدين: فأطالوا قيام الليل وضيعوا صلاة الفجر، فهل يمكن أن تضيع فريضة من أجل مستحب عند فقيه؟

والفقه: هو الذي يجلب لك المفاضلة ويبينها عند المزاحمة، فإذا تزاحمت الأعمال وتضايقت الأوقات، فماذا تقدم

وتراعي؟ كذلك حال القلب، فلو كان اعتكافٌ في مسجد هو أقل فضلاً لكن يجتمع فيه قلبك أكثر، فيكون اجتماع حال القلب أفضل.

والتأخر عن أول وقت الصلاة إذا وُضع العشاء؛ لأجل أن تنال النفس حاجتها منه، ثم تقوم للعبادة وهي مقبلة عليها قال أبو الدرداء: "من فقه المرء إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ"، (أي من الدنيا).

ومن الناس من لا دنيا ولا آخرة.

 إجابة المؤذن: ذكر من الأذكار، وقراءة القرآن أفضل الذكر، لكن إذا أذن المؤذن وهذا الإنسان يقرأ القرآن، فإن من الفقه: أن يجيب المؤذن مع أن تلاوة القرآن من جهة الأصل أفضل؛ لأنه كلام الله وهو أفضل الذكر، ولكن حين كان هذا واجب الوقت، وهذه سنة يضيع وقتها لو لم تقل في هذا الموضع، بخلاف التلاوة، فإنها يمكن أن تؤجل إلى حين انتهاء الأذان، وهكذا يصلي ركعتين خفيفتين إذا دخل المسجد؛ لاستماع الخطبة، ولا يطيل فيهما.

ومن الفقه تخفيف النافلة لإدراك الجماعة، من فقه الرجل أنه إذا شرع في النافلة وأقيمت الجماعة خففها، وإذا كان في الركعة الأولى قطعها، وكل هذا من الفقه، وهو دقائق عجيبة، فإنه إذا جاء إلى المسجد في صلاة الجمعة، (لو جاء متأخراً) فإنه إذا أدرك ركعة وسلّم الإمام أضاف إليها أخرى، من أدرك ركعة فقد أدرك الجمعة وأدرك الجماعة، فإن جاء بعد ركوع الركعة الثانية صلى أربعاً؛ لأنه لم يدرك الجمعة فيصليها ظهراً، فإن كان مسافراً وأراد أن يصلي الجمعة صلى الجمعة معهم، وهي صحيحة مجزئة عن الظهر منه.

صلى على سطح المسجد أو في القبو أو بين وبينه الإمام حاجز، فانقطع المكبر الذي يكبر الصوت، ثم رجع المكبر فهو أمام احتمالات: إما أنه لا زال مع الإمام في نفس الموضع، أو أن الإمام تقدم عليه، وإذا نوى الإنفراد هو وأتم الصلاة، فقد يكون سبق الإمام، ثم عاد صوت المكبر، ففي هذه أحوال، ماذا يفعل؟ إن سبقه الإمام أتى بما فات مع الإمام ثم لحق الإمام، وإن كان هو سبق الإمام: انتظر الإمام حتى يصل إلى الموضع فأكمل معه، وإن كان في ذات الموضع فإنه يكمل مع الإمام، فإن لم يرجع صوت المكبر، فإن كان أدرك مع الإمام ركعة صلى إليها أخرى؛ لأنه أدرك الجمعة، وإن انقطع صوت المكبر من أول صلاة الجمعة فهو سيصليها ظهراً، إذا لم يرجع الصوت، فإن شرع في صلاة الظهر وقلب النية، ثم عاد الصوت بعدما قلب نيته إلى ظهر، فإنه لا يعود إلى الجمعة؛ لأن النية لا تعود من الأدنى إلى الأعلى، والجمعة أعلى من الظهر والظهر أدنى منها، فماذا سيفعل؟ هذه من الحالات النادرة التي يجوز فيها قطع الفريضة، فيقطع الظهر التي نواها ويلحق بالإمام يبدأ معه صلاة الجمعة مرة أخرى.

أحوال كثيرة تمر على الإنسان في قضية مسافر يأتم بمقيم، ورجل يصلي المغرب خلف من يصلي العشاء، وهذه كلها تتطلب فقهاً، الفقه فيه: تقديم الأولويات إذا ضاق الوقت، فإذا خشي كذلك من فوات الجماعة ولم يتوضأ قدم مصلحة إدراك الجماعة على سنة تثليث الوضوء، فتوضأ مرة مرة.

ومن فقه الرجل بالمناسبة كما قال الإمام أحمد: قلة وضوئه بالماء. (أي الماء المستعمل في الوضوء).

الوُضوء بالضم عملية غسل الأعضاء بنية الطهارة، وبفتح الواو هو الماء المستعمل، فقول أحمد -رحمه الله-: "من فقه الرجل قلة وضوئه بالماء"، وضوئه أي الماء المستعمل.

قال المروزي: "أردت أن أوضئ أحمد وأنا في العسكر، فسترته من الناس؛ لئلا يراه العوام فيظنون أنه لا يحسن الوضوء لقلة استعماله للماء".

ومن فقه الرجل: النظر في عواقب الأمور ومآلاتها، وقد يصرف بعض ماله للورثة عند تقدم عمره إذا كان ماله قليلاً: ((إنك إن تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم))البخاري(2591).

ومن الفقه: الموازنة بين المصالح والمفاسد، فلا يكون فقيهاً حتى يعلم خير الخيرين، وشر الشرين، وأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.

وهكذا: إذا ازدحمت المصالح ولابد من تقديم أحدها قدم الأعلى، فما هو الأعلى؟، وقد قدم جابر -رضي الله عنه- زواجه من الثيب على البكر؛ لأجل مصلحة أخواته، مع أن الزواج بالبكر شرعاً أفضل، وقال للنبي -عليه الصلاة والسلام-: "إن لي أخوات فأحببت أن أتزوج امرأة تجمعهن وتمشطهن، وتقوم عليهن"مسلم(1991)، ترك النبي -عليه الصلاة والسلام- الأمنية بإعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم الخليل وإدخال ما تركته قريش، وجعلته حِجراً بلا بناء، وكان يتمنى أن يكون للكعبة بابين، باب يدخل من الناس، وآخر منه يخرجون، وأن ينزل مستوى باب الكعبة إلى الأرض، ولكنه ترك ذلك؛ تأليفاً لقلب قومه، حديثو عهد بجاهلية، قد خرجوا منها لتوهم.

وهكذا لا يكون الإنسان فقيها إلا إذا علم أدنى المفسدتين؛ ليرتكبها عند الاضطرار إلى إحداهما: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (سورة الكهف: 79)، ففعل أخف المفسدتين (الخضر -عليه السلام-)، وخرق السفينة، وجعل مكانها خشبة مكان الخرق؛ ليعيبها؛ لأن هنالك غاصب ظالم جبار، تمر عليه السفن فإذا أعجبته السفينة أخذها، فأراد أن يعيبها؛ لئلا يأخذها الغاصب، {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}، فصار الفعل منه من باب دفع أشد الضررين بارتكاب أخفهما، فهذا من الفقه العظيم، ويجوز كشف العورة لطبيب إذا كان ترك المرض دون علاج يخشى منه العطب، ومن فقه الرجل: أن يقدم درء المفسدة على جلب المصلحة، ألم ترى أن الله يقول: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ}: أي: أصنام الكفار؛ لأنهم يدعونها من دون الله، لا تسبوها لماذا؟ {فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} فسب آلهة المشركين قربة أصلاً، ولكن لما صار الكفار يسبون الله إذا سب المسلمون آلهتهم جاءت الآية بالنهي عن ذلك.

ألم ترى أن أرباح تجارة الخمر تُفَوّت لما في الخمر من المفاسد، مع أن تحصيل الأرباح مصلحة، وهكذا يكون الإنسان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقيهاً، فيقدم المعروف الأكبر في الأمر على المعروف الأدنى، ويقدم المنكر الأشد في النهي على المنكر الأدنى، ولا يأمر بمعروف يُفَوِّت معروفاً أكبر منه، ولا ينهى عن منكر إذا كان يحصل بالإنكار منكراً أكبر منه.

قال ابن القيم: "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم، (أي من التتر) يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، (أي: أنكرت عليه إنكاره) وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء (أي التتر الكفار الفجار)، يصدهم الخمر عن قتل النفوس المسلمة، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم، (أي فيما هم فيه من السكر)" وهذا من الفقه العظيم.

وأحياناً يتفكر الفقيه لتفهيم السائل، ويظن السائل أن المسألة صعبة، وما القضية إلا أن الفقيه يتفكر كيف يوصل الجواب إلى السائل، وأحياناً يحتاج الأمر إلى أن يهزه هزةً يستيقظ منها، وخصوصاً أصحاب الأمراض المستعصية كالوسواس القهري، والذين يعانون من هذه الآفة.

جاء رجل إلى ابن عقيل الفقيه -رحمه الله- فقال: إني أغتمس في النهر غمستين وثلاثاً، أدخل دخولاً كاملاً، ولا أتيقن أنه قد عمني الماء، ولا أني قد طهرت، فقال له: لا صلاة عليك، قال: ماذا؟ قال: لا صلاة عليك، قال: ولِمَ؟ قال: لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((رفع القلم عن المجنون حتى يفيق)) ومن ينغمس في النهر مرتين أو ثلاثاً، ثم يظن أن الماء لم يغمره فهو مجنون، ومن صار مجنوناً سقطت عنه الصلاة، فعاد ذلك الرجل إلى نفسه.

اللهم إنا نسألك الفقه في الدين، واتباع سنة سيد المرسلين، وأن تجعلنا من عبادك الصالحين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله أكبر، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، خلق فسوى وقدر فهدى، أشكره ولا أكفره، وأخلع كل من يكفره، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، البشير والنذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وذريته وأزواجه وخلفائه، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله كما صليت على آل إبراهيم، وبارك عليه وعلى آله كما باركت على آل إبراهيم.

 

ضوابط للفقيه مع شواهد من فقه السلف

عباد الله: إن من الفقه العظيم: ألا يؤيس الإنسان الناس من رحمة الله، لكن في ذات الوقت لا يؤمنهم من مكر الله، فبعض الوعاظ والخطباء والدعاة ربما قالوا كلاماً فتح على الناس أبواب المعصية، ويستعملون نصوص الرجاء دون ذكر نصوص الخوف، وربما قالوا: نحدثهم بذكر الجنة فقط؛ لأن نفوسهم تكره ذكر النار، مع أن طريقة القرآن ذكر الجنة والنار والترغيب والترهيب، والجزاء ثواباً وعقاباً، وعرض الأمور المتقابلة؛ لتكتمل الصورة في النفس، ولكل مقام مقال، قال علي -رضي الله عنه-: "حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، (أي ما يشتبه عليهم فهمه) أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟". رواه البخاري(127).

ولذلك فالمتشابَه لا يحدث به عند العامة، المتشابَه الذي لا تبلغه العقول، أو يفهم على غير وجهه الشرعي، وكذلك: فإنه لا بأس لإنسان أن يكتم أشياء أحياناً في مجلس؛ لأنها تفهم على غير وجهها، أو تستغل استغلالاًَ باطلاً، ولذلك قد يُحْجِم بعض عقلاء الفقهاء وأذكيائهم عن ذكر راجح في مسألة؛ كي لا يستغله المنافقون اليوم، فإنهم قد يتسقطون بعض الفتاوى، مع أن لها وجهاً صحيحاً؛ لكي يطوعوها بجهلهم وأهوائهم؛ لتوافق الباطل والحرام الذي يدعون إليه، ولذلك لا يجوز إمدادهم بأي نصوص، أو كلام لأهل العلم يمكن أن يستغلوه هذا الاستغلال الباطل، وقد أنكر الحسن -رحمه الله- تحديث الحجاج بقصة العرنيين، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم بالمسامير المحماة بالنار؛ لأنه يخشى أن يستعملها الحجاج في شرعنة ظلمه، وقصة العرنيين في قوم مجرمين جاءوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، أظهروا الإسلام ومرضوا، فلما أعطاهم الذود والإبل والراعي واللقاح والدواء، والطعام، والشرب، إذا بهم يقتلون الراعي ويستاقون الإبل، (إبل بيت المال)، ويهربون بعدما ارتدوا عن الإسلام، قتلوا وارتدوا وسرقوا، ونهبوا شيئاً لعموم المسلمين، فعند ذلك أتبعهم النبي -عليه الصلاة والسلام- بأصحابه فأخذوا وقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، ورموا على الحرة، الصخور الحارة في المدينة، يستقون فلا يسقون، وسملت أعينهم؛ لأنهم فقؤوا عين الراعي، فَفُعل بهم ذلك قصاصاً حتى ماتوا.

سئل ابن عباس -رضي الله عنه- هل للقاتل توبة؟ فقال: نعم، ثم سأله سائل آخر: هل للقاتل توبة؟ فقال للسائل: ماذا تقول؟ فقال: هل للقاتل توبة؟ مرتين أو ثلاثاً، فقال ابن عباس: ويحك أنى له التوبة، فقيل: إنه أجاب الأول؛ لأنه جاءه نادماً، والثاني: تفرس فيه عدم التوبة، فأراد التخويف والتحذير، وخصوصاً أن الخوارج في وقت ابن عباس قد أوغلوا في دماء الأمة فشدّد ابن عباس -رضي الله عنهما- في قضية القاتل، هل تقبل توبته أم لا؟ لإغلاق الباب، وكان ذلك في تفسير قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} (سورة النساء: 93) ومراعاة أحوال المستفتين من أعظم الفقه، وما يطيق شخص في المستحبات يكون باب خيراً له أكثر من الآخر، فهذا قد يُفتح له في صيام النافلة، وهذا في صدقة النافلة، وهذا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا في تعليم الناس وهكذا…، وقد يكون جواب بعض المسائل السكوت أو التأخير، ولا شك أن من الفقه العناية بجوامع الكلم، وخصوصاً في الخطب والدعاء من فقه الرجل: ((إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه)) مسلم (2046): أي مظنة، فإذا كان عنده القدرة على الإتيان بجوامع الكلم، وعند الحاضرين من يفهم هذا، فإنه يتأكد عليه أن يفعل ذلك، وجوامع الكلم في الدعاء فيها أشياء كثيرة، كقوله تعالى: {وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (سورة البقرة: 201) ولذلك كان إنكار بعض الصحابة على ولده، أو من سمعه يقول: اللهم إني أسألك الجنة وقصورها، وحورها، وأشجارها، وثمارها، وأنهارها، وقال في جنهم: اللهم إني أعوذ بك من جهنم، وسلاسلها، وأغلالها، وحميمها، ويحمومها، وعقاربها، فقال له: يا بني اسأل الله الجنة واستعذ به من النار، فإنه إذا أعطاك الجنة أعطاك الجنة وما فيها، وإذا أعاذك من النار أعاذك من النار بما فيها.

وهذا الفقه هو الذي يجعل الإنسان يعتني بنفسه، ويراعي الأولويات في الأقارب، ابدأ بنفسك، ثم الأقرب فالأقرب، هذا الفقه: هو الذي يجعل الإنسان يحسن التصرف في المواقف الصعبة، والعويصة.

قال ابن عباس: خرج عمر -رضي الله عنه- إلى الشام فلقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة وأصحابه، فأخبروه أن الوباء وقع في الشام، الطاعون، فاستشار عمر المهاجرين والأولين: هل يدخل الشام أم لا؟ فاختلفوا، ثم استشار الأنصار فاختلفوا، ثم دعا مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه، يعني قرر الرجوع إلى المدينة، قال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: نعم، نحن نفر من قدر الله إلى قدر الله، فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيباً، في بعض حاجته، فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إذا سمعت به (أي الطاعون) ((بأرض فلا تقدموا عليه))البخاري(5397)، فحمد عمر الله وانصرف.

ومن فقهه -رضي الله عنه- أنه لم يقطع يد السارق في عام الرمادة؛ لوجود شبهة المجاعة، ولم يكن يلغي حد الله ولا يعطل حدود الله، وإنما كان شيئاً مؤقتاً لظرف واقع، وكذلك لم يقطع الخلفاء الأيدي في الغزو لماذا؟ أُتَي بسر بن أرطأة -رضي الله عنه- بسارق سرق بختية، أنثى الجمال، فقال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا تقطع الأيدي في الغزو)) ولولا ذلك لقطعته. رواه الترمذي(1450)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (2 / 319)، لماذا؟ لأن هذا المقطوع قد يلحق بالكفار حمية وغضباً.

وأيضاً: فإن الفقه يجعل الإنسان يُورد العبارات الشرعية في مواضعها، عطس رجل إلى جنب ابن عمر فقال: الحمد لله والسلام على رسول الله، فقال ابن عمر: وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله، وليس هكذا علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال. رواه الترمذي(2738) وهو حديث صحيح، وهذا أحد الأدعية التي تقال في العطاس.

وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب يصلي في وقت نهي، فنهاه سعيد، فقال: أيعذبني الله على ركعتين؟ قال: بل يعذبك على خلاف السنة، لماذا تخالف وتصلي في وقت النهي؟.

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يفقهنا في دينه، ونسأله -عز وجل- أن يعلمنا من تأويل كتابه، ونسأله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، ونور قلوبنا، وسدد ألسنتنا، اللهم اسلل سخائم صدورنا، اللهم إنا نسألك أن تعطينا ولا تحرمنا، وأن تزيدنا ولا تنقصنا، وأن تعافينا، وأن تعفو عنا يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والنجاة يوم المعاد، اللهم إنا نسألك في ساعتنا هذه أن تغفر لآبائنا وأمهاتنا، وإخواننا وأخواتنا، اللهم اغفر لنا وللمسلمين يوم يقوم الحساب، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.