البشارة بأن الباطل زائل وإن علا
الشيخ: محمد صالح المنجد
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الحمد لله الذي أنزل علينا القرآن، وجعل ما فيه من الأمثال والبيان: حكمة ومجالاً للتدبر؛ ليتحقق الابتلاء والامتحان، وتتبين حقيقة الإنسان، قال الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله في آية لا بد للمسلم من النظر فيها بعين البصيرة، والتأمل فيها: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ (سورة الرعد:17) قال بعض السلف: “إذا سمعتُ المثل في القرآن فلم أفهمه بكيتُ على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (سورة العنكبوت:43)، فلا يفهم الأمثال التي ضربها الله للناس في كتابه إلا العالم، فإذا لم يفهم الشخص المثل فربما لا يكون من أهل العلم، وقد ضرب الله تعالى في هذه الآية مثلاً نارياً، وقبله مثلاً مائياً، فقال الله عز وجل في المثل المائي: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا، وهذا المثل فيه تشبيه الوحي والقرآن الذي أنزله الله تعالى لحياة القلوب، وهداية الناس؛ بنزول المطر من السماء الذي تحيا به الأرض، إنه وحي عام لا يخص أحداً دون أحد، هو للجميع: للعرب والعجم، للأحمر والأصفر والأسود، إنه للذكر والأنثى، والكبير والصغير، مثل المطر الذي يعم بنفعه الجميع.
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا، هذه الأودية التي تجتمع فيها الأمطار تختلف سعةً وعمقاً، وتختلف بحسب إمساكها للماء، وتختلف في الشعاب التي تسيل منها، وحجم الأراضي التي تسقيها، وبالتالي في حجم الانتفاع الذي ينتفع منها، الوادي يحتضن الماء، وكذلك قلب المؤمن يحتضن هذا الوحي ويلُمُّه فيه، وينعقد عليه، فيتفاعل معه، الأرض تتفاعل مع المطر فتنبت، والقلب يتفاعل مع الوحي فيثمر الأعمال الصالحة، وعندما ترى المطر ينزل فإنه يثمر أنواعاً من الثمار والزهور مختلفة اللون والطعم والرائحة، وكذلك هذه الآيات في قلب المؤمن تثمر أنواعاً من الأعمال الصالحة، إنها في تنوعها وشمولها وقيامها على أعضاء البدن المختلفة فيها رصيد له عظيم عند ربه. قال الله تعالى: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ سالت أودية، هنالك حركة، كما تعبر عنها لفظة: سالت إنه ليس ممسكاً فقط، ومختزناً، أو متشرباً، كلا، بل هو وادٍ كبير يسيل بما فيه، والماء ليس آسناً، وإنما يتحرك؛ لأن الوادي فيه مناسيب في الارتفاع مختلفة تجعل الماء يتحرك، فيسيل الوادي بما يحتضنه من الماء، يسيل الوادي بما اشتمل عليه من المطر فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا.
قلوب الناس في قبول الحق والعمل به تختلف فهي كالأودية المتنوعة، والقلوب تتفاوت فيما تأخذه من الوحي والقرآن، وبما تقبله منه، وبما تتفاعل معه، وتنصاع لأمره، فهناك قلوب كبيرة وقلوب صغيرة، قلوب واسعة وقلوب ضيقة، قلوب طيبة وأخرى خبيثة، إذا جاءها الوحي لم يجد محلاً قابلاً، فينصرف عنها، فيكون كالمطر الذي يمر على الصخور الملساء، إنما يزيل عنها التراب فقط، وهذه الأودية ليست صخوراً ملساء إذا نزل عليها الماء انصرف وزال، وإنما هي تحتضن وتكتنز، فإذا نزل القرآن حملت القلوب منه على قدر اليقين والعقل، والقلوب مع الوحي كالغيث مع الأرض، فهنالك أرض نقية تقبل الماء وتنبت الكلأ والعشب الكثير، وهناك أرض أجادب تمسك الماء فينفع الله به الناس إذا أخذوا منه، فيحتفرون، ويستخرجون، ويستنبطون، ويشربون، ويسقون، ويزرعون، وهناك أراضٍ لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأً.
قال الله تعالى: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا احتمل: جرف معه بالطريق هذا الزبد، وهذا الحركة المتدفقة يركب زبد، ويعلو زبد، والزبَد هو ما يعلو السيل من خليط غير متماسك من أشياء من القاذورات، والوساخات، وبقايا أرواق الأشجار، والأتربة، والأخشاب، ونحو ذلك من الأشياء والأعواد، هذا الزبد ليس فيه تماسك، ولا ترابط، مجموعة أشياء غير متجانسة، أيضاً ليس له أساس؛ لأنه محمول على الماء حملاً، ولكنه ظاهر فوقه، وبائن على سطح الماء للرائي، أول ما ينظر الإنسان إلى مجرى السيل يجد هذا الزبد، فهو في رأي العين أول ما يُرى، هو شيء يطفو على السطح، ولكنه سرعان ما يتمزق ويتصدع بكل سهولة إذا مر على شيء ثابت، أو عاقه عائق سرعان ما يضمحل، يزول، يتفرق تفرقاً سهلاً سريعاً هو عبارة عن رغوة، فقاقيع هواء، والفقاعة ماذا تحتوي في الحجم أو في الوزن أو الكثافة؟ هي أقل كثافة من الماء بكثير، ولذلك تطفو على سطحه، هذا غثاء، لكنه موصوف في الآية: رَّابِيًا: يعني عالياً، منتفخاً، منتفشاً ، فالانتفاش، والانتفاخ، والعلو؛ من طبع الزبد لكن بلا أساس، ولا قاعدة، غير متماسك، ولا متجانس، ويتفرق سريعاً، هذا هو المثل المائي. ثم قال تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ، يوقد في النار ابتغاء الحلية والمتاع صخر المعدن، عندما يراد استخلاص المعادن: يؤتى بالخام المخلوط بأشياء كثيرة من ذهب، وحديد، وغير ذلك، يُدخل في أفران، ويعرض للحرارة العالية؛ لاستخراج المعدن، وإذا استُخرج المعدن يدخل بعد ذلك في أفران، ويعرض للنار للتشكيل؛ ليكون حلية أو متاع، فهذا الخام المخلوط لاستخراج المعدن منه لا بد أن يوقد عليه نار، فماذا يحدث عند عملية الصهر، أو عند عملية الإيقاد على هذه الأشياء؟ يعلو زبد أيضاً، وتظهر فقاقيع؛ لأن المعادن مخلوطة بأشياء تافهة أو قاذورات، وأشياء خسيسة، ولا بد لاستخراج النفيس من حرارة تفصل الخسيس عنه، فإذا وضع في النار علته فقاعات أخرى تسمى خبث المعدِن. والعلاقة بين المثلين واحدة وهي ارتفاع الزبد وعلوه على السطح، ثم يلقى ويطرح؛ لأنه لا خير فيه، ويؤخذ الباقي الصافي، المعدن الأصلي، الذي يستفاد منه في الطرق والتشكيل ونحو ذلك.
في الحالين في المثل المائي والناري قال الله: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ، الزبد يذهب جفاءً ما رمى به الوادي من الزبد، وما رمى به القدر والفرن من الزبد في جنباته؛ يذهب جفاءً فما معنى جفاءً؟ باطلاً، ضائعاً، مطروحاً، مستغنىً عنه، ملقىً، تافهاًً، فيحصل الصفاء للوادي بعد ذهاب الزبد، ويحصل الصفاء للمعدن بعد ذهاب هذا الزبد أيضاً، يصبح المنظر أجمل، ويصبح المعدن صافياً، والماء أصفى.
قال الله تعالى عن المرحلة التي تكون بعد ذلك: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ من الماء الصافي، والمعدن الخالص فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ، يثبت فيها: مصنوعات، نباتات؛ ينفع الناس، فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ فهذا شجر، وهذه حلية ومتاع، ينتفع الناس بالشجر فيأكلون من الثمار، ويتزينون بالحلية، ويستخدمون ذلك المتاع، هذا الشيء المشاهد دنيوياً فما هي العلاقة بينه وبين الدين والشرع والإسلام، وما أنزل الله؟ بعد ما ساق لهم هذه المشاهد أو هذين المشهدين المرئيين المتكررين المعروفين عندهم قال لهم بعد سياقها: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، عندما يقرأ الإنسان الآية من أولها: يذهب ذهنه ويسير مع هذه العملية الطبيعية التي ينزل فيها الماء إلى الوادي، وذلك الإيقاد الذي يفعله الناس في المعادن، لكن بعد ذلك يأتي الربط: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، فضرب الله مثلين للحق في ثباته، للحق في بقائه، للحق في منفعته، للحق في رسوخه، للحق في استفادة الناس منه، للحق عندما يبقى ويستمر، وأيضاً ضرب المثل في هذا للباطل في تفرقه، وعدم تجانسه، سبلٌ، وذاك صراط مستقيم، هذه سبل غير متجانسة، ولا متوافقة، هذه أهواء مصدرها إبليس وشياطين الإنس، ثم لها علوٌ في مراحل، نعم: الباطل منتفش، نعم: الباطل يعلو أحياناً، نعم: الباطل يظهر للناس، ولا يظهر الحق لكثير من الناس، والذي لا يعلم الحقيقة ويرى سطح القدر وسطح الوادي يرى زبداً، يراه منتفشاً طاغياً، يراه منتفخاً عالياً؛ لأنه قال: رَّابِيًا، زَبَدًا رَّابِيًا، لكن ماذا يحدث له بعد ذلك؟ الله عز وجل حكيم لم يرد أن يكون الحق هكذا يُحصل عليه بكل سهولة، وبدون أي معركة ولا مواجهة، ولا تغلب، وإنما أراد أن يكون هنالك صراع، وأن يكون هنالك تغلب في النهاية للحق، وعلوٌ للباطل في البداية، أول ما ينزل المطر فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا، أول ما يوقدون عليه في النار تخرج الفقاقيع، ويعلو الزبد، إذاً البداية للزبد، لكن ليس الاستمرار له، ولا البقاء فضلاً عن النفع والرسوخ، ولذلك قال: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، هذه أشياء محسوسة يضرب الله بها أمثالاً للأشياء غير المحسوسة، ويرينا الحق في رسوخه كالشجرة العظيمة التي لها ثمار ضاربة في الأرض بجذورها، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (سورة إبراهيم: 24)، ويرينا الباطل، ويوم القيامة ماذا يكون؟ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (سورة الفرقان:23) كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم، وهكذا يضرب الله الأمثال، ختم الآية بهذا الختام: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ، هذه الأمثال عظيمة، يضربها الله ليعقلها العالمون، هذه الأمثال يبين الله بها، هذه الأمثال مجال للتدبر والتفكر، ومن تأمل استخرج المزيد، هذه أمثال لذهاب أعمال الكفار والمنافقين، ينفقون عليها كثيراً لكنها لا تدوم، هذه أمثال لجهود أعداء الدين يصرفون من أجلها الأوقات والأعمار، مخططات، مؤامرات، مؤتمرات، إنفاقات، جهود عظيمة جداً؛ لكنها في النهاية تضمحل، تدبير أهل الباطل سيزول، وأموالهم سينفقونها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (سورة الأنفال:36) ولا يبقى في النهاية إلا ما هو حق أريد به وجه الله عز وجل.
اللهم إنا نسألك أن ترينا الحق حقاً، وأن ترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلاً، وأن ترزقنا اجتنابه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العلي الوهاب، وسبحان الله الهادي إلى طريق الصواب، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، خير من دعا إلى الله وأناب، آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب، صلى الله عليه وعلى الآل والأصحاب، اللهم ارض عنهم إلى يوم الدين، وعمن تبعهم إلى بإحسان يا أرحم الراحمين. يا أيها المسلمون: يا عباد الله: تأملوا في إنفاق أهل الباطل وجهودهم، إذاعة الفاتيكان تأسست عام 1931م، تملك أكبر وأقوى أجهزة بث على مستوى العالم، وتقدم خدماتها بأكثر من سبعة وأربعين لغة ولهجة من بينها العربية، يستمع إليها أكثر من مليار وثلاثمائة مليون مستمع ومشاهد في العالم، وعدد المؤسسات التنصيرية أكثر من ربع مليون مؤسسة تنصيرية، تملك أكثر من مائة مليون جهاز كمبيوتر، وتصدر ملايين الكتب، وأكثر من خمسة وعشرين ألف جريدة بأكثر من مائة وخمسين لغة، وصل عدد الأناجيل الموزعة في العالم إلى نحو ستين مليون، وهناك أكثر من خمسمائة قناة فضائية تنصيرية، قام قسٌ أمريكي بحملة صليبية للوصول إلى أربعمائة مليون شخص بخطاب يلقيه في خمسمائة مدينة عن طريق ستة عشر قمراً صناعياً بكل ما يحتويه كل قمر من القنوات، وأكثر من مائة ألف مركز ومعهد تدريب وتأهيل، وعلى سبيل المثال فإن منظمة (S0S) التنصيرية المتخصصة في إنشاء قرى للأطفال والأيتام حول العالم: أنشأت أكثر من ثلاثمائة وواحد وسبعين قرية نموذجية: بمساكنها، ومدارسها، وترفيهها، وألعابها، وحواضنها، بكافة الخدمات التعليمية، والصحية، والتربوية، والاجتماعية حول العالم، ميزانيات بالمليارات، كما قام المنصورون ببناء المدارس، والملاجئ، والمخيمات، ودور الأيتام والفقراء، وبناء الجامعات، وتقديم الأموال، والمساعدات، والأدوية، والأغذية، في المقابل: ماذا قدم المسلمون؟ الجواب مخجل لا يذكر، كم قمر صناعي عملوا لخدمة الإسلام؟ المحطات الفضائية الإسلامية جهود فردية في كثير من الأحيان، وهذه تفتح وهذه تغلق، وهذه وهذه… ولا زال عامل التخطيط والإدارة كله بدائيا، وقل مثل ذلك في كثير من المواقع والكتب: لا زلنا في مجال الدعاية والإعلان والإعلام والوسائل لا زلنا في البداية، وأعداؤنا تقدمونا بكثير، وفضلاً عما يكون في بعض الأعمال الإسلامية من الدخل والدخن والخلط، ماذا يوجد لها من ميزانيات؟ ماذا يوجد لها من متفرغين وطاقات بشرية؟ لا يكاد يذكر، ثم هي مع ذلك (الأعمال الإسلامية) معرضة على مستوى العالم للحصار، فتأمل في المدارس على مستوى العالم في أوروبا، في أمريكا … إلى آخره، في المعاهد، في المراكز الإسلامية القليلة الباقية الموجودة، ماذا حصل لها؟ إقفال، شلل، حصار، إغلاق، وعقوبات، فهذا يغلق، وهذه مآذن تمنع، وهذه مساجد تحاصر، وهذا نقاب وحجاب يحارب، مع المقارنة غير المنصفة أبداً بين الفريقين فإن الإسلام هو الديانة رقم واحد في الانتشار في العالم الآن، كل هذه الجهود هناك، وكل هذه الأشياء المتواضعة هنا، ثم يكون الإسلام أكثر دين انتشاراً في العالم، ويخشى الفرنسيون أن تتحول فرنسا إلى دولة إسلامية في عام 2050م. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (سورة الأنفال:36)، مشروع تنصيري جُمع له ثلاثمائة وست ثلاثين مليون دولار، وآخر جمع له مائة وخمسين مليون دولار، انهار كل منها بسبب فضيحة أخلاقية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ستخرج، ستبذل، ستذهب ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً؛ لكي يقفوا ويقولوا: ماذا صنعنا؟ بالنسبة لحسابات الأرباح والخسائر، ما كسبوه من التنصير لا يعادل أبداً إطلاقاً المبالغ الهائلة، والجهود التي صرفت: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ (سورة الصف:8)، تظهر كلمة الحق ولو بعد حين، ينتصر الحق ولو بعد مدة، سيغلِب أهله ولو كانت الجولة لأعدائهم في البداية، لكن لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، يقول المؤرخ الأمريكي استودورد: يكاد يكون نبأ ظهور الإسلام هو الأعجب في تاريخ البشرية؛ إذ ظهر في أمة عرب متمزقين، وكيان منحط، فلم يمض عليه قرن (أي: مائة سنة فقط) حتى انتشر في نصف العالم، يغير النفوس والدول، والأقوام والناس، ويبني حضارة.
ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنار مسند أحمد (16998)، وقال شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم، والدين ينتشر شرقاً وغرباً، وهكذا الكرة الأرضية اليابسة فيها منتشرة شرقاً وغرباً، قطب في الشمال، وقطب في الجنوب، وبحار بينهما، لكنه قال عليه الصلاة والسلام: إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها صحيح مسلم:(2889).
أقاموا حفلاً تنصيرياً لفتيات مسلمات قد تم إعدادهن مدة من الزمن، ثم بعد ذلك لما خرجن كن بالحجاب الإسلامي، ومجموعة من القرويين يقوم عليهم منصرون يعلمونهم كل يوم، ويعطونهم، ويغذونهم، ثم يأتي واحد يمر أمامهم فيقول: وحدوه، فيقولون كلهم: لا إله إلا الله: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ (سورة الروم:30)، وبجهود بسيطة: أنت لا تعرف الإسلام، إن أردت معرفته اتبعني، اسألني، اتصل على الرقم الفلاني، هذا مسلم استنبطها من إعلان إطارات، إعلان إطارات على زجاج سيارات، فأسلم عنده أكثر من ألف ألماني، وأقام مسجداً، ومركزاً إسلامياً، وداراً للتعليم. أيها الأخوة: الأشياء التي تذهب من الباطل كثيرة، تذهب ثروات ومليارات جمعت لغير وجه الله وبغير حق، مثال ذلك ما ذكر الله تعالى عن قارون: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ (سورة القصص:79)، عنده خزائن: مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ (سورة القصص:76)، مفاتح الخزائن لتنوء بالعصبة أولي القوة، والعصبة: جماعة من الرجال ليسوا ضعافا أُولِي الْقُوَّةِ ينوءون بحمل المفاتيح، فكيف بالخزائن؟ فكيف بما في داخل الخزائن وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ، لما خرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيم (سورة القصص:79) ماذا كانت النتيجة؟ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ (سورة القصص:81)، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ. أين قوم عاد؟ أين قوم ثمود؟ أين إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟ وأين ثمود الذين جابوا الصخر بالواد؟ وأين فرعون ذي الأوتاد؟ وأين حضارة الفراعنة؟ وأين ما كانوا عليه من الملك أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي (سورة الزخرف:51) كلها ذهبت وانتهت، واضمحلت وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا (سورة الأعراف:137)، وانتهت حضارة فرعون، انتهت دولة فرعون، الفراعنة انتهوا، وأورث الله بني إسرائيل في ذلك الوقت مشارق الأرض ومغاربها، بقيت الآن أطلال بواقي، أشياء تنبئ أنه كان هنا حضارة وبلاد لكن انتهت، أهلكهم الله، منهم من خسف به، ومنهم من سلط عليه حاصباًَ، ومنهم من أخذته الصيحة، ومن أخذه الريح والإعصار، وهكذا…، خذ اليوم من مذاهب الشيوعية، الوجودية، الإلحاد، البعثية إلى آخره، أين ذهبت؟ ماذا بقي منها؟ ذهبت اضمحلت، مذاهب كثيرة جداً، وبدع وطرق: ذهبت انتهت بادت، وبقي القرآن، القرآن لم يتغير، ولم يتبدل، ولم يفنى، أين بدعة القول بخلق القرآن؟ انتهت بعدما كان لها كبراء وزراء، من يقومون بها، ويدعون إليها، ويخيفون الناس، ويعذبونهم، لكن انتهت، بادت المدرسة، بقي ما في الكتب عنها، بقي شواذ قلة ممن يقول بها، لكن انتصر منهج أهل السنة، وارتفع ذكر من مثَّله من الإمام أحمد، والبويطي، ومحمد بن نوح، وأهل العلم الذين كانوا على الحق، بقي منهجهم. حصلت فقاقيع كثيرة عبر التاريخ، هناك كتب كثيرة ألفت، وكتب كثيرة رصدت لها الملايين، وطبعت، ودعايات وإعلانات، أين هي الآن؟ ماذا بقي منها؟ كم سطّر الحداثيون ونفخوا فيه من كتب؟ ماذا بقي منها؟ ماذا بقي من الآيات الشيطانية؟ وماذا بقي من الليالي الحمراء المزعومة؟ وماذا بقي من ومن، تضمحل ويبقى كتاب الله عز وجل، وما يتعلق به من شرح وتفسير، وهكذا تندثر فتاوى باطلة وضالة، وهكذا تذهب أكاذيب كثيرة فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ. لما عزم مالك رحمه الله على تصنيف الموطأ وصنفه قلده بعض الناس، وعملوا موطآت، وجمعوا أحاديث ووضعوها في كتاب، فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل الكتاب، ثم شاركك فيه ناس، وقلدوك وعملوا مثل نفس الفكرة، فقال: ائتوني بما عملوا، فأوتي بذلك، فنظر فيه ثم قال: لتعلمن أنه لا يرتفع من هذا إلا ما أريد به وجه الله، بقي انتقاء مالك، وشروط مالك، وتعب مالك، وسهر مالك، ورحلات مالك في جمع الحديث، وتبويب مالك، بقي موطأ مالك، وبقي صحيح البخاري، وبقيت الرسالة للشافعي، وبقيت صحاح مسانيد أهل السنة، ولكن الكتب التي ألفها علماء النصارى واليهود في القرون السابقة ماذا حصل فيها؟ بقيت لنا دواوين أهل الإسلام، بقي لنا مسند أحمد، بقي لنا من الشروح الكثير، والعجيب أن هنالك كتب لم تنتشر في وقت مؤلفها مثل مؤلفات ابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، وابن عبد الهادي وغيرهم، ما كانت منتشرة في وقتهم كانتشارها الآن أبداً، بل كانت محاصرة، ولهم أعداء، وهكذا خرج تفسير ابن كثير، ورياض الصالحين، مؤلفات النووي، وابن حجر، وابن قدامة، وغيرهم. الآن تطبع بأعداد أكبر بكثير مما كان في وقت المؤلف فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء كتب لأهل الباطل ذهبت بقي منها مخطوطات اندثرت، وبقيت كتب أهل الحق، هناك ممن ولي في الأرض كثير، لكن بقي ذكر ذي القرنين مخلداً، وبقيت سيرة عمر بن عبد العزيز وقد خلف سنتين: زاهية مورقة، جذابة جميلة، أحمد بن حنبل رحمه الله لما خرجت جنازته لهج الناس في الجنازة بذكر الحق، وأن القرآن منزل غير مخلوق، وابن أبي دؤاد الذي تزعَّم الفتنة ابتلاه الله بشلل قبل الموت، وبقي طريحاً في الفراش لا يحرك جسده، وحُرِمَ لذة الطعام والشراب والنكاح، ولم يُصَلِّ عليه عند موته إلا ابنه العباس وعدد قليل من الناس، ودفن في بيته؛ لأن الناس ربما رجموا قبره، وقس على ذلك، البقاء للأصلح، أما الزبد فيذهب جفاءً، تذروه الرياح، ولو أنفقت عليه أموال كثيرة.
ما هو الدرس أيها الأخوة؟
الدرس: عدم الاغترار بالباطل ولو انتفش، ولو علا، ولو ظهر في المشهد؛ لأنه في النهاية سيضمحل ولا يبقى، ويبقى الحق. قالوا: أن هناك ستمائة وستة وتسعين قناة عربية: منها مائة وخمسة عشر قناة للأغاني، وستة وخمسين للرياضة، والقنوات الدينية قلة فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ، أين أفلام هوليود؟ أنتجت أفلام كثيرة جداً أين هي؟ ما ذهب منها كثير، نُسي، ينفق على الفلم الواحد عشرون مليون دولار، ثلاثون مليون دولار، أربعون مليون دولار، لكن أين هي بعد ذلك؟ وأما القرآن والسنة وشروحهما فأمرها عجيب، والعلماء، والشخصيات، وتلاميذ العلماء، وتلاميذ التلاميذ، طيب ذكرهم، باق أثرهم فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ. اللهم اغفر لنا أجمعين، ودلنا على الحق يا رب العالمين، وخذ بأيدينا للتمسك به إنك على كل شيء قدير، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا أجمعين، وأن تتوب علينا يا تواب، ارزقنا الأمن والأمان في بلدنا هذا وبلاد المسلمين، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.