لن ينجي أحداً منكم عمله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فإنَّ الله – سبحانه – خلق الخلق ليعبدوه، وأثاب العابدين بدخول جنته، والفوز برحمته، والبعد عن غضبه وسطوته فقال تعالى: ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (سورة النحل:32)، وقوله: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (سورة الزخرف:72). ولكنه – سبحانه – لم يجعل دخول الجنة عوضاً عن عبادة العابد وعمله، وإنما جعل العبادة والعمل سبباً لدخول الجنة؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لن ينجي أحداً منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا1، وقوله: واغدوا: من الغدو وهو السير أول النهار، وروحوا: من الرواح وهو السير في النصف الثاني من النهار، وشيء من الدلجة: السير آخر الليل، والقصدَ القصدَ: الزموا الوسط المعتدل في الأمور، تبغلوا: مقصدكم وبغيتكم.
ظاهر الحديث أنه يتعارض مع آيات كثيرة تبين أن دخول الجنة إنما يكون بالعمل، بينما الحديث يدل على أن دخولها إنما يكون برحمة الله – تعالى -؛ ومن هذه الآيات التي ظاهرها التعارض مع الحديث قوله تعالى: ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (سورة النحل:32)، وقوله: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (سورة الزخرف:72)، وقد جمع العلماء بين هذا الحديث مع ما عارضه من الآيات؛ نذكر هنا ما قاله العلامة ابن القيم – رحمه الله -: وهاهنا أمر يجب التنبيه عليه، وهو أن الجنة إنما تدخل برحمة الله – تعالى – وليس عمل العبد مستقلاً بدخولها، وإن كان سبباً، ولهذا أثبت الله – تعالى – دخولها بالأعمال في قوله: بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ؛ ونفى رسول الله ﷺ دخولها بالأعمال بقوله: لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، ولا تنافي بين الأمرين لوجهين: أحدهما ما ذكره سفيان وغيره قال: كانوا يقولون النجاة من النار بمغفرة الله، ودخول الجنة برحمته، واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال، ويدل على هذا حديث أبي هريرة أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم. رواه الترمذي2.
والثاني: أن الباء التي نفت الدخول هي باء المعاوضة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلاً للآخر، والباء التي أثبتت الدخول هي باء السببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره، وأن لم يكن مستقلاً بحصوله، وقد جمع النبي ﷺ بين الأمرين بقوله: سددوا، وقاربوا، وأبشروا، واعلموا أن أحداً منكم لن ينجو بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا ألا أن يتغمدني الله برحمته3 وهذا من رحمته بخلقه حيث جعل العمل الصالح سبباً لدخول الجنة، وذلك بعد تفضله ورحمته، وذلك لأن الإنسان لو عمل ما عمل من الأعمال فإنه لا يمكن أن يؤدي حق نعمة من نعم الله عليه، ولذلك قال النبي ﷺ: لن ينجى أحداً منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة منه، وفضل، يقول هذا – عليه الصلاة والسلام – مع أنه سيد العابدين، وإمام المتقين، والذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فعن عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ إذا صلَّى قام حتى تفطر رجلاه، قالت عائشة – رضي الله عنها -: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا عائشة! أفلا أكون عبداً شكوراً4، وهذا من تمام علمه بربه، وشدة خشيته له، وعظم تواضعه، وعلو إخلاصه في عمله، ومن تمام شكره لربه، وهذا حال من وفقه الله واصطفاه، فإن العابد المخلص لربه لا يرى لنفسه عملاً، وإنما يرى إنعام الموفق لذلك العمل؛ قال الله – تعالى -: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ (سورة الحجرات:7). وأنه إذا قيس العمل بالنعم لم يف بمعشار عشرها … وتأمل ما هو حال الفطناء في هذا الأمر؟
فهؤلاء الملائكة الذين قال الله عنهم: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (سورة التحريم:6)، وقال: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (سورة الأنبياء:20)، ومع ذلك جاء في الأثر أنهم يقولون: ما عبدناك حق عبادتك.
وهذا إبراهيم الخليل يقول: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي (سورة الشعراء:82) مع أنه صبر عندما ألقي في النار، وسلم ولده إسماعيل للذبح، ورسول الله ﷺ (كما سبق) أنه كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ومع هذا يقول: ما منكم من أحد ينجيه عمله قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته.
وأبو بكر الصديق يقول: وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله، وعمر الفاروق يقول: لو أنَّ لي طلاع الأرض لافتديت بها من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر، وابن مسعود يقول: ليتني إذا مت لا أبعث، وعائشة – رضي الله عنها – تقول: ليتني كنت نسياً منسياً. وهذا شأن جميع العقلاء، – فرضي الله عن الجميع -، وأما من قل فهمه، وانتكست فطرته، واغتر بعمله؛ فإنه يؤدي به إلى الهاوية، فهذا الرجل العابد من بني إسرائيل قيل أنه عبد الله خمسمائة سنة في جزيرة، وأخرج له كل ليلة رمانة، وسأل الله – تعالى – أن يميته في سجوده، فإذا حشر قيل له: أدخل الجنة برحمتي، قال: بل بعملي، فيوزن جميع عمله بنعمة واحدة فلا يفي، فيقول: يا رب برحمتك..5. وفي الحديث يشبه النبي ﷺ المسلم في الدنيا بالرامي الذي يسدد ويصوب على هدف يريد أن يصيب منتصفه، فإن حاول ذلك، وبذل كل ما في وسعه، ولم يصب النقطة التي في منتصف الهدف؛ فستكون إصابته قريبة من ذلك، ولكنه إن صوَّب على طرف الهدف فقد لا يصيبه إطلاقاً، ومثل ذلك الطالب أيضاً إن جعل هدفه أن ينجح بامتياز، وبذل الجهد المناسب لهذا الهدف؛ فقد يحصل عليه، وإن لم يوفق فسيحصل على تقدير “جيد جداً”، وأما إن كان هدفه النجاح فقط فقد ينجح، وقد يخفق، وهكذا…
وفي الحديث: الحث على العمل لا على الكسل، ولكنه يحث أيضاً على الاعتدال الذي يستطيع الإنسان به أن يداوم على عمله فالقصد القصد تبلغوا أي عليكم بالاعتدال والاتزان؛ لتصلوا إلى رضوان الله وجناته، وتشملكم رحمة الله – تعالى -، والإسلام هو دين الوسطية والاتزان، فهو يوازن بين حقوق الله وحقوق الناس، وحقوق الأهل، وحقوق النفس؛ ففي الحديث: إنَّ لربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه6، ولما جاء بعض أصحاب النبي ﷺ يسألون عن عبادته، وقال بعضهم: أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أقوم الليل ولا أنام، وقال ثالث: لا أتزوج، قال رسول الله ﷺ: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني7. ولكن ما هو مقياس الاعتدال وعدم التطرف: هل هو أهواء الناس، وعقولهم، وشهواتهم؟!
إن الذي يعيش في محيط تجرأ على محارم الله – تعالى -؛ يعتبر نفسه معتدلاً متزناً، ويعتبر التمسك بالحد الأدنى من الدين تعصباً وتطرفاً!، إن بعض المجتمعات تعتبر عدم الاختلاط، وعدم إقامة العلاقات الجنسية، وعدم شر الخمور؛ تطرفاً وتعصباً، إن العقل البشري غير قادر بمفرده على وضع الميزان الصحيح للاعتدال، ولا أدل على ذلك من اختلاف هذه العقول حول ذلك، فبأي الآراء نأخذ؟! وهل رأي الأكثرية دائماً صحيح؟! وهل يمكن أن يكون لكل فرد قانونه الخاص به؟! ولماذا أتنازل عن قناعاتي لحساب قناعاتك؟!
إن التوازن أمر فوق طاقة البشر، لا يقدر عليه إلا القدير الذي خلق الكون متوازناً إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (سورة القمر:49)، والذي أنزل الدين متوازناً؛ لأنه العليم بما خلق، الحكيم فيما شرع أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (سورة الملك:14).
إن الأمة الإسلامية هي التي تملك المقياس الصحيح للاعتدال، وهي المتخصصة والمؤهلة لتعليم الناس الوسطية الحقيقية قال الله – تعالى -: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ (سورة البقرة:143)، وهكذا فتشريعات الله هي التي تحقق الاعتدال، وكل ما خالفها فهو التطرف مهما كثر فاعلوه، وانتشر مؤيدوه8. وخلاصة القول أنَّ الإنسان مهما عمل من الأعمال الصالحة؛ فإنه لا بد له في دخول الجنة من تحقق أمرين:
1. رحمة الله – تعالى -، وهذا سبب رئيسي لدخول الجنة.
2. العمل الصالح، وهذا سبب لاستحقاق دخولها.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليه من قول أو عمل.
1– رواه البخاري واللفظ له، ومسلم.
2– رواه الترمذي وابن ماجه، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي رقم (462) وضعيف ابن ماجه رقم (947).
3– سبق تخريج الحديث، وانظر كلام ابن القيم في: “حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح” لابن القيم، صـ(61)، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، وبمعناه في: “مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة” لابن القيم (2 /109) الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت.
4– رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
5– راجع: “صيد الخاطر” صـ(288) بحذف وزيادة.
6– رواه البخاري.
7– رواه مسلم.
8-راجع: “الهدي النبوي في الرقائق”؛ صـ(126-127) للدكتور شرف القضاة، دار الفرقان، الطبعة الثانية (1410هـ).