دياركم تكتب آثاركم

دياركم تكتب آثاركم

 

يجد الإنسان ذلك الأثر الذي يتركه في هذه الدنيا بعد موته، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}(يـس:12) يقول الإمام السعدي رحمه الله تعالى: "أي: نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال، {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} من الخير والشر وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم، {وَآثَارَهُمْ} وهي آثار الخير وآثار الشر التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس بسبب علم العبد، وتعليمه، ونصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيراً من صلاة أو زكاة، أو صدقة أو إحسان؛ فاقتدى به غيره، أو عمل مسجداً، أو محلاً من المحال التي يرتفق بها الناس وما أشبه ذلك؛ فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر"1.

ولعل من الآثار الحميدة التي يتركها ابن آدم، وتتشرف بها سجلاته؛ تلك الخطوات التي يخطوها إلى المسجد، يرجو بها ثواب الله، ويخشى عقابه، وهذه من أجلِّ الآثار التي يخلفها المرء وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم آثاراً، وذكر بأنها تكتب في كتاب محفوظ كما في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حين قال: "أراد بنو سَلِمَة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، قال: والبقاع خالية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا بني سَلِمَة ديارَكم تُكتب آثارُكم)) فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا" رواه مسلم (1069)، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلزموا ديارهم، وبيَّن أن هذه الخطوات إلى المسجد هي آثار تكتب، وحسنات تحفظ، وخير يجده صاحبه يوم القيامة.

وذكر ابن العربي رحمه الله تعالى أن هذه الحادثة لبني سلمة هي سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}(يس:12) فجاء في أحكام القرآن: "روي عن ابن عباس قال: كانت منازل الأنصار بعيدة من المسجد، فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد، فنزلت: {ونكتب ما قدموا وآثارهم}، فقالوا: نثبت مكاننا"2.

إن الخطوات إلى المسجد تعني فيما تعني السير إلى الله عز وجل، وتعني السعي نحو الجنان، والفرار من النيران، وهي استجابة لأمر الله تعالى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}(الذاريات:50).

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضل هذه الخطوات في أكثر من موضع، ومن ذلك:

   أن أجرها يضاعف عن أجر الصلاة منفرداً لما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)) رواه البخاري (611)، ومسلم (1059).

   أنه كلما كان المسجد بعيداً كان الأجر عظيماً فقد جاء عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام)) رواه البخاري (614)، ومسلم (1064).

   أن الله تعالى يزيل بها خطايا بني آدم، ويرفع درجاتهم فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط)) رواه مسلم (369)، وفي مسند أبي يعلى رحمه الله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إسباغ الوضوء في المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ يغسل الخطايا غسلاً))3، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تطهر في بيته، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله؛ كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة)) رواه مسلم (1070).

       أن الآتي للمسجد زائر لله عز وجل، والزيارة على الأقدام أقرب إلى الخضوع والتذلل كما قيل:

لو جئتكم زائراً أسعى على بصري           لم أقض حقاً وأي الحق أديت؟

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من غدا إلى المسجد وراح أعدَّ الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح)) رواه البخاري (622)، جاء في مرقاة المصابيح: "(أعدَّ الله) أي هيأ (له نُزُله) بضم النون والزاي وتسكن وهو ما يقدم إلى الضيف من الطعام (من الجنة) قال السيوطي في حاشية البخاري: النزل بضمتين المكان المهيأ للنزول، وبسكون الزاي ما يهيأ للقادم من نحو الضيافة، فمن على الأول للتبعيض، وعلى الثاني للتبيين (كلما غدا أو راح) قال الطيبي: النزل ما يهيأ للنازل"4.

وعن سلمان رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من توضأ في بيته فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد فهو زائر الله، وحق على المزور أن يكرم الزائر))5.

   وللسير إلى المساجد في الظلمات عند خروجهم إلى صلاة العشاء والفجر أجر خاص مع ما يلاقونه من الثواب السابق الذكر، فزيادة على ذلك يجازيهم الله تعالى بدل تلك الظلمة التي كانوا يمشون فيها نوراً تاماً يوم القيامة حين يفتقد الناس إلى أدنى شيء من النور كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ}(الحديد:12-13) جاء عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بشر المشَّائين في الظُلَمِ إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة))6، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله ليضيء للذين يتخللون إلى المساجد في الظلم بنور ساطع يوم القيامة))7.

فإذا كان كل ما سبق هو فقط في فضل الخطى إلى المساجد، وبيان الآثار العظيمة التي تكتب لمن غدا إلى المسجد أو راح، فكيف لو ذكرنا فضل حضور الجمعة والجماعات؟ لا شك أن الأجر أكبر وأعظم، فضلاً الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ومن حرم ذلك فقد حرم خيراً كثيراً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


1 تفسير السعدي (1/692) المحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى 1420هـ-2000م.

2  أحكام القرآن لابن العربي (7/20) الناشر: دار الكتب العلمية.

3 مسند أبي يعلى الموصلي التميمي (1/379)، دار المأمون للتراث – دمشق، الطبعة الأولى (1404-1984) تحقيق: حسين سليم أسد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/46)، مكتبة المعارف – الرياض، الطبعة: الخامسة.

4 مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/376) لعلي بن سلطان محمد القاري، دار النشر: دار الكتب العلمية – لبنان/ بيروت (1422هـ – 2001م)، الطبعة: الأولى، تحقيق: جمال عيتاني.

5 المعجم الكبير (6/253) لسليمان الطبراني، الناشر: مكتبة العلوم والحكم – الموصل، الطبعة الثانية (1404-1983) تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، وحسن الحديث الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/77).

6 رواه الترمذي (207)، وصححه الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح للتبريزي (1/159)، الناشر: المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة: الثالثة (1405-1985).

7 المعجم الأوسط للطبراني (1/257)، الناشر: دار الحرمين – القاهرة (1415)، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد, ‏عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، وقال الألباني في الحديث: صحيح لغيره، انظر صحيح الترغيب والترهيب (1/76).