إن الله معنا

إن الله معنا

 

الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عنوان هذه المقالة هو جزء من آية في سورة التوبة يخبرنا فيها ربنا عز وجل بقول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بكر الصديق وهما في الغار خلال رحلة الهجرة المباركة: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}(التوبة:40)؛ حين قيلت في أحلك الظروف، وأشد المواقف.

لقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في غار ثور ثلاثة أيام، وخلالها كان قد وصل بعض الطامعين في الجائزة المعدة لمن أمسك بهما حينما كان كفار قريش يتبعونهما ويترصدون لهما، وقد أعدوا جائزة مقدارها مائة من الإبل لمن يأتي بخبرهما أو رأسهما، وأدرك أبو بكر رضي الله عنه بالخطر المحدق به؛ ولنَدَعْ أبا بكر الصديق رضي الله عنه يكمل لنا تلك القصة فليس الخبر كالمعاينة: فعَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: ((مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا)) رواه البخاري (3380) ومسلم (4389).

 ومعنى قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} أي ناصرنا ومؤيدنا، ومعيننا وحافظنا، وهذه ما يطلق عليها العلماء: المعية الخاصة، التي تقتضي النصر والتأييد، والحفظ والإعانة، وهذه النصرة والمعية للعبد تكون بحسب قربه من الله، فمن كان لله أكثر تقوى وعبادة كانت معية الله أقرب منه، لذا فقد أدركت معية الله الخاصة إبراهيم الخليل عليه السلام حين ألقي في النار، وأدركت محمداً صلى الله عليه وسلم حين كان مختبئاً في الغار، وأدركت يونس عليه السلام حين كان في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر.

وهذه المعية هي مصداق قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}(غافر:51) وكما نصر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، وأيَّده وأعانه، فكذلك ينصر ويؤيد ويعين كل متبع للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو سبحانه مع الصابرين، والمحسنين، والصادقين، والمتقين، ومع كل مؤمن بالله، مخلص له في عبادته، متبع لرسوله عليه الصلاة والسلام قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}(النحل:6)، وقال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(البقرة:194).

وعندما يكون المؤمن قوياً بإيمانه، واثقاً من موعود الله ونصره وتأييده؛ يستشعر أن معية الله معه؛ فهذا نبي الله موسى عليه السلام حينما تقابل أتباعه مع جند فرعون وقال أصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}(الشعراء:61)؛ رد عليهم موسى عليه السلام مستشعراً تلك المعية: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}(الشعراء:62).

ولما أمر الله موسى وهارون عليهما السلام بالذهاب إلى فرعون لدعوته طمأنهما فقال: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}(طه:46) يقول قتادة رحمه الله تعالى: "من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تُغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، وكتب بعض السلف إلى أخ له: أما بعد فإن كان الله معك فمن تخاف، وإن كان عليك فمن ترجو"1

فاشدد يديك بحبل الله معتصماً            فإنه الركن إن خانتك أركان

{لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} يحتاجها المسلم في كل آن: فإذا تكاثف همك، وكثر غمك، وتضاعف حزنك فقل لقلبك: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، وإذا ركبك الدين، وأضناك الفقر، وشواك العدم؛ فقل لقلبك: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، وإذا هزَّتك الأزمات، وطوَّقتك الحوادث، وحلَّت بك الكربات؛ فقل لقلبك: إن الله معنا"2.

لو وقفت الدنيا كل الدنيا في وجهك، وحاربك البشر كل البشر، ونازلك كل من على وجه الأرض فلا تحزن لأن الله معنا.

وإذا كنا في حياتنا مع الله، متبعين لرسوله، معظمين لدينه؛ كان الله معنا بنصره وتأييده، وحفظه ورعايته، فلا نحزن، ولا نقلق، ولا نكتئب؛ لأن الله سبحانه معنا؛ وإذا كان الأمر كذلك فإننا لا نُسحَق، ولا نضل، ولا نضيع، ولا نيأس، ولا نقنط؛ لأن الله معنا، والنصر حليفنا، والفرج رفيقنا، والفتح صاحبنا، والفوز غايتنا، والفلاح نهايتنا؛ لأن الله معنا.

وكيف نقلق ونحزن ومعنا الله سبحانه: الركن الذي لا يضام، والقوة التي لا ترام، والعزة التي لا تغلب، وما دام الله معنا فممن نخاف؟ وممن نخشى؟ وممن نرهب؟ أليس هو القوي العزيز.

وما دام الله معنا فَلِمَ نأسف على قلة عدد، أو عوز عتاد، أو فقر مال، أو تخاذل أنصار، فالله معنا وكفى.

 معنا بحفظه ورعايته، بقوته وجبروته، بكفايته وعنايته، بدفاعه وبطشه، فلا نحزن.

"لا تحزن" إذا استشعرها الخادم وهو يهدد الناس بقوة سيده من ملوك الأرض فإنك تراهم يخافون ويذعنون، فكيف برب الناس، ملك الناس، إله الناس، وإن أعظم كلمة في الخُطَب، وأشرف جملة في الكُرَب؛ هي هذه الكلمة الصادقة الساطعة: "لا تحزن إن الله معنا".

وسر هذه الكلمة هو في مدلولها، وعظمتها هي في معناها؛ يوم تذكر معية الله عز وجل الذي بيده مقاليد الحكم، ورقاب العباد، ومقادير الخلق، وأرزاق الكائنات.

ولقد كان لهذه الكلمة في زمنها الذي قيلت فيه، وجوها المخيف المرعب، ومكانها المزلزل المذهل؛ طعم آخر، وقصة أخرى، لقد جاءت في لحظة طُوِّق فيها المعصوم وصاحبه في الغار، وأُغلق الباب، وأحاط الأعداء بهما من كل جانب، فسلُّوا سيوف الموت يريدون أشرف مهجة خلقت، وأزكى نفس وجدت، وأطهر روح خلقت؛ فما الحيلة؟

الحيلة رفع ملف القضية، وأوراق الفاجعة، وسجل الكارثة؛ إلى من على العرش استوى ليقضي فيها بما يشاء، ومع هذا أرسل صاحب الرسالة ذو القلب المشرق الفياض لصاحبه أبي بكر رضي الله عنه رسالة رقيقة، هادئة باسمة، حانية نصها: "لا تحزن إن الله معنا"، فانقلب الحزن سروراً، والهم فرحاً، والغم راحة، والكرب فرجاً، والهزيمة نصراً عزيزاً.

ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على        خيــر البرية لم تنسج ولم تحم

عناية الله أغنت من مضــاعفة         من الدروع وعن عال من الأطم

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتقين، وأن يحشرنا مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 جامع العلوم والحكم (ص188) أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي. الناشر: دار المعرفة – بيروت.

2 للمزيد انظر: "لا تحزن" للشيخ عائض القرني.