الثلاث الكفارات

 

الثلاث الكفارات

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

اعلموا رحمكم الله أن خير الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد بن عبد الله ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أما بعد:

أيها الناس: إننا مهما عبدنا الله، ومهما أطعناه فإننا لا نزال في حال من التقصير والتفريط، فقد جاء في الحديث القدسي: (قال الله تعالى: يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم)1.

فمن فضل الله تعالى ورحمته بعباده أن شرع لهم أعمالاً تكفر ما قد يقعون فيه من الزلات والهفوات والسيئات، ومن هذه الأعمال التي شرعها الله لتكفير السيئات والهفوات ما جاء في الحديث الذي أخرجه الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- وفيه أن النبي  قال: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات… وأما الكفارات: فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السَبَرات -شدة البرد-، ونقل الأقدام إلى الجماعات…)2،

وقد جاءت السنة بأحاديث أخرى لها نفس معنى هذا الحديث؛ فمن ذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله   قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)، بل إن الملأ الأعلى يختصمون على هذه الثلاثة الأعمال المكفرة للذنوب فقد جاء في حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن النبي قال: (إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت، فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة، فقال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب –أعادها ثلاثاً- فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري، فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: وما الكفارات؟ قلت: نقل الأقدام في الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء عند الكريهات)3.

أيها الناس: أولى هذه الكفارات: “انتظار الصلاة بعد الصلاة”، وذلك أن في انتظار الصلاة بعد الصلاة دلالة على تعلق قلب العبد المنتظر للصلاة بالمسجد، وحبه له فقد

جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد)4. والعبد لا يزال في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه؛ لما جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله   قال: (لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة

وكما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن عقبة بن عامر عن رسول الله   أنه قال: (القاعد على الصلاة كالقانت-أي منتظر الصلاة كالقائم يصلي- ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه).

بل إن المنتظر في المسجد للصلاة الأخرى ينعم باستغفار الملائكة له، ودعائهم له؛ فقد جاء في البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله قال: (والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلّى فيه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)..

وأخرج البخاري من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله   أخر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل ثم أقبل بوجهه بعد ما صلى، فقال: (صلى الناس ورقدوا ولم تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها)..

أيها المسلون: إن انتظار الصلاة بعد الصلاة عمل جليل يباهي الله بالجالسين المنتظرين للصلاة الملائكة، فقد خرج رسول الله   على حلقة من أصحابه، فقال: (ما يجلسكم؟) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده لما هدانا للإسلام ومنّ علينا به، فقال: (آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟) قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: (أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، إنه أتاني جبريل وأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة)5.

وفي حديث عبد الله بن عمرو قال: صلينا مع رسول الله المغرب فرجع من رجع وعقب من عقب، فجاء رسول الله مسرعا قد حفزه النفس وقد حسر عن ركبتيه فقال: (أبشروا،هذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي، قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى)6. فحري بنا أن نحرص على هذه الخصلة حتى يكفر لله عنا ذنوبنا ويرفع درجاتنا.

الكفارة الثانية -عباد الله-: “إسباغ الوضوء في السَبَرات” أي في شدة البرد، والمقصود بإسباغه إتقانه وإتمامه على الصفة التي علمنا إياها النبي   في كل وقت، وذلك في حال البرد الشديد، أو ما أشبه ذلك؛ فإن من توضأ كما توضأ النبي  غفر الله له ذنبه؛ لما جاء في البخاري ومسلم من حديث حمران مولى عثمان بن عفان في بيان كيفية وضوء عثمان وقول عثمان عن النبي  : (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه).

وقد جاءت السنة النبوية الصحيحة بذكر فضائل كثيرة لمن توضأ كما توضأ النبي  وأسبغه؛ فقد جاء في الحديث الذي أخرجه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم(801) عن عقبة بن عامر الجُهني -رضي الله عنه- أن رسول الله   قال: (ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة). وعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال النبي  : (من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله جل وعز مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجرهم شيئا)7.

أيها المسلم: اعلم أنك إذا توضأت وضوءك للصلاة خرجت منك كل خطيئة عملها عضو من أعضائك وذلك عند غسلك لذلك العضو، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أن رسول الله   قال: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء،حتى يخرج نقيا من الذنوب).

أيها المسلم: لا شك ولا ريب أنك تحب النبي  ، وتحب أن تكون رفيقه في الجنة، وأن يزاد نعيمك فيها، وأن تحلّى من حليها؟ فعليك بإسباغ الوضوء، والمبالغة في ذلك؛ فقد جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن رسول   قال: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء). اللهم إنا نسألك الجنة، ونعوذ بك من النار.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

أيها الناس: الكفارة الثالثة من مكفرات الذنوب: “نقل الأقدام إلى الجماعات”، أي: المشي إلى المساجد لأداء الصلاة المفروضة، فكل خطوة تخطوها -أيها المسلم- لأداء الصلاة وأنت متوضئ يحط الله عنك بتلك الخطوة خطيئة، ويرفع لك درجة؛ فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن النبي   قال‏: (من تطهر في بيته، ثم مضى إلى بيت من بيوت الله، ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته، إحداها تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة)8‏، بل جاء في البخاري ومسلم أنه يرفع الله بكل خطوة يخطوها  المسلم لأداء الصلاة درجة ويحط عنه بها خطيئة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال‏:‏ قال رسول الله  :‏ (صلاة الرجل في جماعة تُضعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخطُ خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحطت عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه، ما لم يحدث، تقول اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحمه‏.‏ ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة‏)، وكلما كثرت الخطوات إلى المسجد كلما عظم الأجر؛ فعن أبي هريرة أيضاً أن رسول الله   قال: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج عامدًا إلى الصلاة فإنه في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة، وإنه يكتب له بإحدى خطوتيه حسنة ويمحى عنه بالأخرى سيئة، فإذا سمع أحدكم الإقامة فلا يسعَ فإن أعظمكم أجرًا أبعدكم دارًا)، قالوا: لم يا أبا هريرة؟ قال: “من أجل كثرة الخطى”9.

بل إن فضل الله في ذلك عظيم حيث يكتب له ذلك الأجر ذاهبًا وراجعًا كما في حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله   قال: (من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحو سيئة وخطوة تكتب له حسنة ذاهبًا وراجعًا)10.

وعن أبي أمامة أن رسول الله  قال: (من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين)11. بل إن المسلم كلما غدا إلى المسجد أو راح فإنه يكون في ضيافة ملك الملوك؛ فقد جاء في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة أن النبي   قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح).

أيها المؤمنون: وأعظم المشي أجراً إلى المسجد المشي في ظلمة الليل، فقد جاء في حديث بريدة عن النبي  قال: (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة)12، وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله   قال: (إن الله ليضيء للذين يتخلّلون إلى المساجد بنور ساطع يوم القيامة)13.

وكذلك يعظم الأجر ويكثر لمن يمشي لأداء صلاة الجمعة، ففي حديث أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله   يقول: (من غسّل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها).

أيها المسلمون: أسباب مغفرة الذنوب كثيرة جداً، ولكننا اقتصرنا على بيان ما جاء في الحديث، وذلك خشية الإطالة، وما قلَّ وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.

أيها المسلمون: إن جميع الأعمال الآنفة الذكر مكفرة للذنوب الصغيرة، وأما الذنوب الكبيرة فلابد لها من توبة خاصة بها؛ قال الله -تعالى-: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} سورة النساء(31)، وفي الحديث السابق الذكر:‏ (‏الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر‏)14‏، يقول قتادة -رحمه الله-: “إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر”، وقال سلمان الفارسي -رضي الله عنه-: “حافظوا على الصلوات الخمس فإنهن كفارات لهذه الجوارح مالم تصب المقتلة”، وقال ابن عمر لرجل: “أتخاف النار أن تدخلها، وتحب الجنة أن تدخلها؟ قال: نعم، قال: بر أمك، فوالله لئن ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام؛ لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر”15، والله نسأل أن يغفر الذنوب، وأن يستر العيوب، وأن ينفس الكروب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 


1 أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر الطويل.

2 رواه الطبراني في معجمه الأوسط، وقال الألباني: “حسن لغيره”؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(453).

3 رواه الترمذي وغيره، وقال الألباني: “صحيح” كما في صحيح الترمذي، رقم(2582).

4 أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة .

5 رواه مسلم.

6 رواه ابن ماجه، وقال الألباني: “صحيح”؛ كما في صحيح ابن ماجه، رقم، (653)، وفي صحيح الترغيب والترهيب، رقم(445).

7 رواه أبو داود، وقال الألباني: “صحيح”؛ كما في صحيح أبي داود، رقم(528).

8 رواه مسلم.

9 رواه مالك في الموطأ، وقال الألباني: “صحيح” كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(297).

10 رواه أحمد بإسناد حسن والطبراني وابن حبان في صحيحه، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(299).

11 رواه أبو داود، وحسنه الألباني صحيح أبي داود، برقم(522). وفي صحيح الجامع، رقم(6228 ).

12 رواه أبو داود، والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم(525).

13 رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(317).

14 رواه مسلم.

15 ينظر: جامع العلوم والحكم، صـ(170) لابن رجب. الناشر : دار المعرفة – بيروت.