رفع الأمانة

رفع الأمانـة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:

فإنَّ من علامات الساعة وأشراطها رفع الأمانة، وانتشار الخيانة بمعناها الواسع؛ وهذا ما صرح به المعصوم – عليه الصلاة والسلام – في قوله: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة1، فتضييع الأمانة دليل على قرب قيام الساعة سواء كانت هذه الأمانات في حق الله – تعالى -، أو في حق الناس، ومن ذلك عدم الوفاء بما بايع الإنسان عليه ربه أو أخاه الإنسان، وهذا يشمل كل أنواع العهود، والوعود، والعقود، والمبايعات.

وفي الحديث الذي رواه الصحابي الجليل المتخصص في أخبار الفتن، وصاحب سر النبي  حذيفة بن اليمان  بيان لكيفية رفع الأمانة، وانتشار الخيانة؛ فعن حذيفة بن اليمان  قال: حدثنا رسول الله  حديثين؛ رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها قال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل؛ كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبراً وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، فيقال: إنَّ في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان2.

الأمانة في الحديث تشمل كل أركان الإسلام: عقيدة، وعبادة، وتشريعات، وأخلاقاً قال الله – تعالى -: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (سورة الأحزاب:72). هذه الأمانة أنزلها الله في جذر قلوب الرجال أي أعماق قلوبهم، وهذا للدلالة على رسوخها، وعُمقها في النفوس، فبذرة الخير في القلب قد تغطى، وتتراكم فوقها جبال من الأفكار الخاطئة، والعادات السيئة، ولكنها لا يمكن أن تزول نهائياً، وهذه الأمانة ليست في قلوب الرجال وحدهم؛ كما قد يُتوهم من ظاهر الحديث بل يشمل الرجال والنساء، والصغار والكبار؛ لأن الخطاب إذا جاء للرجال شمل النساء أيضاً؛ إلا ما خصته القرائن.

وظاهر الحديث يدل كذلك أن الأمانة تقبض من قلب الإنسان أثناء النوم دون إرادة منه، ومعلوم أن الإنسان لا يؤاخذ على ما يحدث له أثناء نومه دون إرادة منه، ولذلك فالمراد هنا معنى مجازياً للنوم وهو الغفلة عن أمر الله، وضعف الإيمان، وتناسي الإنسان عامداً متعمداً، فإذا ما تعرض لموقف يتعارض فيه أمر الله مع الأهواء والشهوات؛ قدم أهواءه وشهواته على أمر الله، ولا شك أن الأمانة تنقص من قلبه بقدر المعصية، فإن تكرر ذلك مرة ثانية قبض منها جزء آخر، وهكذا فنقصان الإيمان والأمانة وقبضها إنما يتم نتيجة لعمل الإنسان العاقل المختار العمد الذاكر.

كما أنَّ من رحمة الله – تعالى – أن الأمانة لا تقبض كلها عند أول معصية يقترفها الإنسان، بل تقبض بالتدريج، وبحسب كبر المعصية، وهذا التدريج هو الذي عبر عنه النبي  بالوكت والمجل، فالوكت – على الراجح – هو أثر الحرق الظاهر الذي يغير لون الجلد، والمعنى أن الأمانة يبقى منها أثر واضح بعد القبض الأول.

وأما المجل فهو أثر الحرق الخفيف الذي لا يغير لون الجلد، وإنما ينتفخ الجلد منه انتفاخاً، فالأمانة بعد القبض المتكرر لا يبقى منها إلا أثر غير واضح، وشكليات ومظاهر لا روح فيها، ونفاق لا صدق معه، وهذا – والله أعلم – معنى قوله: فتراه منتبراً – أي منتفخاً – وليس فيه شيء.

وكما أن الأمانة تقبض بالمعصية؛ فإنها تزيد بالطاعة، وهذا معنى قولهم: إن الإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي كما قال العلامة حافظ حكمي:

إيماننا يزيد بالطاعات ونقصه يكون بالزلاتِ

ويأتي على الناس زمان لا يكاد يوجد فيهم أمين، ويصبح الناس يشيرون إليهم بالبنان، ويقال: إن في آل فلان، أو العشيرة الفلانية، أو المكان الفلاني، أو المنصب الفلاني؛ رجلاً أميناً.

وقوله : ويقال للرجل: ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان؛ يدل على أن الأصل وجود هذه الصفات في المؤمن، وعدم وجودها في الكافر، فالمؤمن هو العاقل، الظريف، الصابر، والكافر غير عاقل، وغير خلوق، وغير صابر، وليس في ذلك شيء من المبالغة، فإن الكافر يقدم الدنيا على الآخرة، ويؤثر العاجلة الفانية على الآجلة الباقية قال الله -تعالى-: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (سورة الأعلى:16-17). والكافر – أياً كان لونه أو بلده – يبدو ظريفاً، حسن المعاملة، ولكنه في الحقيقة غير ذلك؛ لأنه إنما يبدو بهذه الصورة عندما تتفق مصلحته، وأهواءه مع هذه الصفات.

والمقياس الصحيح للفضائل والأخلاق إنما يكون بالإيمان والكفر عند غلبات الهوى، ونزغات الشيطان، وعند تعارض المصلحة مع الفضيلة، والخلق الحسن، وحينئذ لا بد لمن يقدم الأخلاق والفضائل على المصلحة من دافع قوي يدفعه لذلك، والكافر لا يملك هذا الدافع؛ لأنه لا يؤمن بالله، واليوم الآخر.

وللتمثيل: كم يقال اليوم لبعض الدول أو الشعوب الغربية ما أظرفها، ما أحسنها، كم تتمتع بالديمقراطية والتسامح، والمحافظة على حقوق الإنسان، وهي إنما تتشدق وتتظاهر بالإنسانية، وبحقوق الإنسان، بل تتاجر بها، وتنادي بها لتحقق مصالحها، ونجد الدول الغربية تتلف كميات هائلة من المواد الغذائية لئلا تنخفض أسعارها في الأسواق العالمية، وفي الوقت نفسه تسعى إلى نهب خيرات الدول الفقيرة في آسيا، وأفريقيا وغيرها، ومع هذا تتشدق بالإنسانية، والمحافظة على حقوق الإنسان، ونحن نراها ونقرأ عنها أنها من أوليات الدول التي تدمر وتقضي على حقوق الإنسان، فأي أخلاق هذه، وأي معاملة تلك المعاملة التي يلاقيها المسلمون في سجون تلك الدول؟ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (سورة الكهف:5).

ونجد الإنسان الغربي أيضاً ظريفاً حسناً كما يقال عنه ولو فَقَد من الدنيا شيئاً فقد كل شيء، وانهار، بل وانتحر، ولذلك نجد نسبة الانتحار ترتفع في المجتمعات التي لا تؤمن بالله – تعالى – ولا باليوم الآخر، بينما إذا أصيب المؤمن بمصيبة في الدنيا علم بقدر الله، وأن الله سيعوضه خيراً منها في الآخرة، وصبر؛ فكان ذلك خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن.

ويشيع في آخر الزمان بين الناس – وحتى المسلمين منهم – التظاهر بما ليس فيهم نفاقاً ورياءً، فيتظاهر الإنسان بالعقلانية، والأخلاق، واللطف، والظرف، والصبر؛ وليس هو كذلك، ويشيع النفاق بين الناس، فيوصف بعض الناس بما ليس فيهم رياءً، وتملقاً، وتزلفاً .. وما أكثر ما يوجد في عصرنا هذا حول كل مسؤول أو ذي جاه من هؤلاء المنافقين المتملقين الذين يصفونه بالفهم، والوعي، والذكاء، والعبقرية وغير ذلك، بل ولو شاءوا لبلغوا به أكثر من ذلك، ولرفعوه إلى مرتبة الألوهية والكمال المطلق.

إن المقاييس والموازين في آخر الزمان تنقلب، ثم تنقلب النتائج، فيصبح الانكباب على الدنيا، والغفلة عن الآخرة؛ عقلانية وواقعية، ويصبح العمل للآخرة غفلة وجهلاً وخرافة، وتكون اللصوصية بالطرق القانوينة ذكاءَ وعبقرية، وتصبح الأمانة تزمتاً وهبلاً، ويصبح النفاق وتعدد الوجوه لباقة ودبلوماسية، وصاحبها إنسان اجتماعي، وتصبح الصراحة والوضوح تعصباً وجلافة، وصاحبها إنسان فظ غليظ لا يطاق، ويصبح قبول الواقع بكل أخطائه، وتحمل الذل والإهانة، وسلب الحقوق الإنسانية؛ صبراً، ويصبح يطلق على الجهاد بكل أشكاله جنوناً، وتطرفاً، وإرهاباً وما إلى ذلك3.

والله الموفق.


1– رواه البخاري من حديث أبي هريرة.

2– أخرجه البخاري ومسلم.

3– راجع الهدي النبوي في الرقائق، للدكتور شرف القضاة، صـ(165- 171) بحذف وزيادة. الطبعة الثنية( 1410هـ). دار الفرقان للنشر والتوزيع.