فن الاستقطاب

فن الاستقطاب

الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

إن الفِراسة والنظر الصائب أمر عزيز لا يتقنه إلا من حباه الله ملكة ورأياً سديداً، وبصيرة نافذة مقترناً ذلك كله بالإيمان، فيتوسم في الأمور، ويفكر ويقدر، ويدقق ويحقق؛ ليصيب برأيه ما يصيب الرامي بنبله، ويرمي ببصيرته ما يروم العاقل بعقله، في تطلع صادقٍ، ورأيٍ متأنٍّ ناطقٍ بحكمة وسداد، وهي معنى قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (الحجر:75) قال الإمام جلال الدين السيوطي – رحمه الله -: “هذه الآية أصل في الفِراسة”1.

“وأصل التوسم تفعُّل من الوسم، وهو العلامة التي يستدل بها على مطلوبٍ غيرها يُقال: توسمت فيه الخير إذا رأيت ميسمه فيه أي: علامته التي تدل عليه، ومنه قول عبد الله بن رواحة  في النَّبي  :

 إني توسمت فيك الخير أعرفه والله يعلم أني ثابت النظر

وقال الآخر:

توسمته لما رأيت مهـــابة عليه وقلت المرء من آل هاشم

وهذا أصل التوسم، وللعلماء فيه أقوال متقاربة يرجع معناها كلها إلى شيء واحد، فعن قتادة: لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي: المعتبرين، وعن مجاهد لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي: المتفرسين، وعن ابن عباس والضحاك: لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي: للناظرين، وعن مالك عن بعض أهل المدينة لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي: للمتأملين.

ولا يخفى أن الاعتبار والنظر، والتفرس والتأمل معناها واحد، وكذلك قول ابن زيد ومقاتل لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي: للمتفكرين، وقول أبي عبيدة: لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي: للمبتصرين، فمآل جميع الأقوال راجع إلى شيء واحد وهو أن ما وقع لقوم لوط فيه موعظة وعبرة لمن نظر في ذلك، وتأمل فيه حق التأمل، وإطلاق التوسم على التأمل، والنظر، والاعتبار؛ مشهور في كلام العرب، ومنه قوله زهير:

وفيهن ملهى للصديق ومنظرٌ أنيقٌ لعين الناظر المتوسمِ

أي: المتأمل في ذلك الحسن، وقول طريق بن تميم العنبري:

أو كلما وردت عكاظَ قبيلةٌ بعثوا إليَّ عريفهم يتوسمُ

أي ينظر ويتأمل”2.

وجاء في الحديث – وإن كان فيه مقال -: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله3، وورد عن أنس  قال: قال رسول الله  : إن لله تبارك وتعالى عباداً يعرفون الناس بالتوسم4.

وحاجة الداعية وإمام المسجد إلى التوسم والفراسة كحاجة الصائد إلى الرمح، والنبل، والقوس، ونتمنى نحن أن نقوم في هذا المقام مقام المبراة لعلنا نصقل أدوات الصيد الدعوية، ونلمح إلى أجود ما يصطاد ويستقطب مما فيه نفع للإسلام والمسلمين.

فالاستقطاب مهارة كمهارة الصيد يفتقر إلى خبرة وحصافة، وحنكة وحكمة، وجودة نظر وحسن اختيار، ودقة متناهية في الاقتناص، وإلا فما قيمة جهد حاطب الليل؟ وهل يستوي ذاهبٌ رجع بأرنب، وآخر رجع بظبيٍ، وآخر بحمار وحشي، وقد قيل في المثل: “كل الصيد في جوف الفرا”5؟

وأنت أيها الداعية أو إمام المسجد بحاجة إلى استقطاب الأقربين الذين هم أولى بالمعروف، ثم الرأي العام (أهل الحي، عامة المصلين، زملاء العمل، جمهور الناس …)، واستقطاب الشخصيات كـ(الوجهاء، الأعيان، الأذكياء، ذوي المناصب، ذوي الهيئات، المتبوعين، الشباب …)، واستقطاب فئات كـ(القبائل، الإعلاميين، المفكرين، التربويين، الأطباء، المهندسين، المخالفين لتضمهم إلى صفك…)، ومن يختلف معك في الفكر أو المذهب، أو من يحرص على الإساءة إليك، والتجريح فيك، أو النيل من عرضك، ومن ترغب في هدايته إلى طريق الالتزام والتدين، أو ترغب في ضمه إلى العمل الجماعي الخيري أو التطوعي.

وعند كل هؤلاء فإن الأولوية هي لمعادن الناس النقية

فالناس مثل دراهم قلَّبتها فأصبت منها فضة وزيوفاً

طرق في الاستقطاب:

 الدعاء لمن تريد استقطابه: فقد كان رسول الهدى – عليه الصلاة والسلام – يدعو: اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب6.

 الهدية: فإنها حبل ممدود ليس بينها وبين القلب حجاب، وفيما روي: إن الهدية تأخذ بالسمع والبصر والقلب7، والمعنى قوي جداً في الكشف عن أثر الهدية في النفوس، وللعلم فإنه حتى الأغنياء يفرحون بالهدية، وتسعدهم الضيافة، ولو أن تدفع عنهم قيمة فنجان شاي.

 التودد له والتلطف معه: سواء بالكلام ولين العبارة، أو الاحترام الظاهر، والزيارة والضيافة، والاتصال والرسالة، والأخذ بيده، والمشي معه قليلاً تكلمه في بعض الأمور أو غير ذلك.

 استشارته مع الأخذ بسديد آرائه: ولا تعدم منهم رأياً حصيفاً، ولا قولاً سديداً، لاسيما فيما يتعلق بشؤون الناس جميعاً في الحي أو المسجد.

 إظهار الاهتمام به: كأن تجعله يمشي جوارك، أو تدعوه أمام مجموعة من الناس، وتتفقد أحواله وظروفه، والوقوف معه في الملمات وما إلى ذلك.

 السعي في جلب بعض المصالح والمنافع له خفية: بحيث لا يعرف بنفعك إياه إلا بعد تمام الأمور؛ ليُكونَّ لك شاكراً مديناً.

تنبهات:

ليكن هدفك هو الدعوة إلى الله، ونفع الناس، وتفعيل الشرائح الفاعلة في المجتمع في خدمة الإسلام، وتعزيز الانتماء إلى الشرع الحنيف.

 لا تغتر بالصفات العامة المؤهلة في الظاهر كالجاه، والمال، والذكاء؛ فلست بحاجة كل ذي مال، أو كل ذكي، فربما حفرت في بحر لتصل إليهم، أو لعقت السماء بلسانك لتحتويهم، وغيرُهم ممن هو أولى منهم دعوة واهتماماً وبذلاً متروك، وخذ هذا القبس من أول سورة عبس حين ربى الله – تعالى – نبيه  بقوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى۝ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى۝ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى۝ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى۝ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى۝ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى۝ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى۝ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى۝ وَهُوَ يَخْشَى۝ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (عبس:1-10)، والدين بحاجة إلى كل الطاقات والأفراد، وهو بحاجة إلى الضعيف كما هو بحاجة إلى القوي، وتأمل فيمن اتبع النبي  في بادئ الأمر لتجد أنهم ضعفاء القوم، وقد جاء في الحديث: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم رواه البخاري (2896).

 عليك بمراعاة الرأي العام فهو سندٌ لك، وعون معك، فإن لم يكن ناصراً فليكن كافّاً عن النيل منك، أو التخذيل عنك، أو الشماتة فيك، أو التحريض عليك، وقد راعى النبي  الرأي العام معه احتراساً ووقاية فلم يقتل المنافقين حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه رواه البخاري (4907) ومسلم (2584).

ولكن ليكن كل ذلك تحت مظلة الحدود والضوابط الشرعية، والعمل بالسياسة الشرعية دون تعطيل لإجماع أو نص صريح.

–  لا تدخل مع أحد في خصام أو جدال عند اختلاف رأي، أو سوء تفاهم، بل كن خير مخالف يعرفه.

 حاول اكتشاف دوافعهم الذاتية والعقلية، وعواطفهم، واهتماماتهم، وميولاتهم، لعلك تجد فيها مفتاحاً تديره أمام عيني أحدهم فيفتح لك مصراعي قلبه.

ظروف مهئية للاستقطاب:

عند مروره بضائقة مادية.

ظروف عائلية، أو وظيفية صعبة.

 شعوره بالتهميش من قبل فئة ينتمي إليها.

وجود صفات مشتركة بينك وبينه.

عندما تقف معه وقفات إنسانية، مالية، اجتماعية.

إشعاره بحبك إياه، وتقديرك له.

إدراكه لتميزك العلمي والمعرفي أو الأدبي.

البعض يهيئ نفسه لقبولك والاتصال بك لعامل السن، أو القبيلة، أو النسب، أو المهنة، أو الاهتمام.

وأخيراً، لا تترك فكرة، ولا وسيلة، ولا موقفاً يمرُّ بك إلا وأنت مستغل لها أتم استغلال، فصاحب الحاجة في طريقه إلى الاختراع.

وكم من إنسان لا يؤبه له أصبح مؤثراً بابتكاراته، وتفننه في كسب الناس، وجذب القلوب، وكم منهم من هو كالمغناطيس يجذب كل حديدة صدئة، وكم منهم من هو صيرفي حاذق لا يقبل إلا صحيحاً سليماً بعد فحص ونقد دقيق.

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وألان قلوب الخلق لقبول الحق، آمين. 


1 روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (14/74) لمحمود الألوسي – دار إحياء التراث العربي – بيروت.

2 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/286) للعلامة محمد الأمين الشنقيطي – دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت – لبنان ط: 1415 هـ- 1995م.

3 الترمذي (3127) وضعفه الألباني.

4 مسند البزار (2/323) برقم (6935) وحسنه الألباني.

5 البيان والتبيين (220) للجاحظ تحقيق: المحامي فوزي عطوي – دار صعب – بيروت – الطبعة الأولى: 1968م.

6 الترمذي (3681) وصححه الألباني.

7 مكارم الأخلاق (1/110) لابن أبي الدنيا، تحقيق: مجدي السيد إبراهيم – مكتبة القرآن – القاهرة – 1411-1990م.