خطورة مخالفة الأفعال للأقوال!
الحمد الله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، والصلاة والسلام على من بعثه الله مبشراً ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..أما بعد:
فقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي وائل قال: قيل لأسامة لو أتيت فلانا فكلمته، قال: إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم! إني أكلمه في السر دون أن أفتح باباً لا أكون من فتحه، ولا أقول لرجل إن كان علي أميراً إنه خير الناس بعد شيء سمعته من رسول الله ﷺ . قالوا: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: (يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلاناً ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)1.
غريب الحديث:
(أسامة) هو ابن زيد حب رسول الله وابن حبه. (فلانا) هو عثمان بن عفان ذو النورين، الذي كانت تستحي منه الملائكة، وثالث الخلفاء الأربعة.
(فكلمته) أي في إطفاء الفتنة التي تقع بين الناس، وقيل في شأن أخيه لأمه الوليد بن عتبة.
(لترون) لتظنون. (فتندلق) تخرج وتنصب بسرعة. (أقتابه) جمع قتب وهي الأمعاء والأحشاء. (برحاه) حجر الطاحون التي يديرها.
شرح الحديث
في هذه الحديث تحذير شديد لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويخالف قوله فعله.
قوله: (يُجاء بالرجل يوم القيامة) أي تجئ به الملائكة، وفي رواية: (يؤتى بالرجل يوم القيامة)(فيُلقى في النار) أي فتلقيه الملائكة في النار إلقاء، لا يدخلها برفق، ولكنه يُلقى فيها كما يُلقى الحجر في اليم (فتندلق أقتابه) وفي رواية: (أقتاب بطنه في النار)أي أنه لما يلقى في النار تندلق، أي تخرج أقتاب بطنه من شدة الإلقاء، والأقتاب هي الأمعاء.
قوله: (فيدور كما يدور الحمار برحاه) هذا التشبيه للتقبيح، شبهه بالحمار الذي يدور على الرحا، وصفة ذلك: أنه في المطاحن القديمة قبل أن توجد هذه الآلات والمعدات الحديدية، كان يجعل حجران كبيران وينقشان فيما بينهما -أي ينقران- ويوضع للأعلى منهما فتحة تدخل فيها الحبوب، وفيها خشبة تربط بمتن الحمار، ثم يستدير على الرحا، وفي استدارته تطحن الرحا..
فهذا الرجل الذي يُلقى في النار يدور على أمعائه -والعياذ بالله- كما يدور الحمار على رحاه، (فيجتمع أهل النار عليه،فيقولون: أي فلاناً ما شأنك؟) أي ما قصتك؟ ما الذي جاء بك إلى هنا؟ ما العمل الذي أدخلت بسببه النار؟ (أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟).
فيقول مقراً على نفسه🙁كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه) يقول للناس: صلوا ولا يصلي، ويقول لهم: زكوا أموالكم ولا يزكي، ويقول: بروا الوالدين ولا يبر والديه، يقولوا للناس خافوا الله وراقبوه في الغيب والشهادة، وهو لا يخاف الله ولا يراقبه، بل إذا خلى بمحارم الله انتهكها -والعياذ بالله-، وهكذا يأمر بالمعروف ولكنه لا يأتيه.
قوله:(وأنهاكم عن المنكر وآتيه) يقول للناس: لا تغتابوا الناس، لا تأكلوا الربا، لا تغشوا في البيع، لا تسيئوا العشرة، لا تسيئوا الجيرة، وما أشبه ذلك من الأشياء المحرمة التي ينهى عنها، ولكنه يأتيها، يبيع بالربا، ويغش ويسيء العشرة ويسيء إلى الجيران وغير هذا، فهو بذلك يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه- نسأل الله العافية-، فيعذب هذا العذاب ويخزى هذا الخزي.
فالواجب على المرء أن يبدأ بنفسه فيأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر؛ لأن أعظم الناس حقاً عليك بعد رسول الله ﷺ نفسك:
أبدأ بنفسك فانهها عن غيها | فإذا انتهت عنه فأنت حكيم |
ابدأ بها، ثم حاول نصح إخوانك، وأمرهم بالمعروف،وانههم عن المنكر، لتكون صالحاً مصلح2.
نصوص أخرى محذرة من مخالفة الأفعال للأقوال
لقد جاءت نصوص كثيرة تحذر من مخالفة الفعل للقول؛ يقول الله–تعالى-: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}سورة البقرة(44)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}سورة الصف (2) (3)، وقال تعالى إخبارا عن شعيب ﷺ : {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}سورة هود(88)..
لماذا عقاب العالم مضاعف؟
إنما يضاعف عذاب العالم في معصيته؛ لأنه عصى عن علم ودراية، قال الله : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}سورة النساء(145)؛ لأنهم جحدوا بعد العلم، وجعل اليهود شراً من النصارى مع أنهم ما جعلوا لله سبحانه ولدا، ولا قالوا إنه ثالث ثلاثة إلا أنهم أنكروا بعد المعرفة، إذ قال الله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} سورة البقرة(146)،
وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}سورة البقرة(89)، وقال تعالى في قصة بلعام بن باعوراء: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} حتى قال: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}سورة الأعراف (175)(176) فكذلك العالم الفاجر، فإن بلعام أوتي كتاب الله -تعالى- فأخلد إلى الشهوات، فشبه بالكلب أي سواء أوتي الحكمة أو لم يؤت فهو يلهث إلى الشهوات”3.
فقد شبه الله من آتاه الله كتابه ولكنه لم يعمل به، بل عمل بخلاف ذلك بالكلب؛ كما شبهه في آية أخرى بالحمار؛ فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}سورة الجمعة(5).
ولذلك فقد كان المتقون السابقون يحاسبون أنفسهم، ويخافون من مخالفة عملهم لأقوالهم،فقد قال رجل لابن عباس-رضي الله عنهما-: “أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر؟” فقال له ابن عباس: “إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل وإلا فابدأ بنفسك”، ثم تلا:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}سورة البقرة(44)، وقوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} سورة الصف (2)(3) وقوله تعالى حكاية عن شعيب : {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}سورة هود(88). وقيل لمطرف: ألا تعظ أصحابك؟ قال: “أكره أن أقول ما لا أفعل”4.
تنبيه:
إن هذا الحديث يحذر من مخالفة الأفعال للأقوال، وأن على الإنسان أن يكون قدوة حسنة عاملاً بما يأمر به، تاركاً ما ينهى عنه، ولا يعني هذا أنه يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الناس ونصحهم ووعظهم، بل عليه أن يسعى أولاً في إصلاح نفسه، واستقامتها، ثم بعد ذلك يدعو الناس إلى ذلك، ويأمرهم بفعل المعروف بعد فعله له، وترك المنكر والبعد عنه بعد تركه إياه..
كما لا يعني هذا الحديث أن الإنسان يجب أن يكون معصوماً من الخطأ؛ لأن العصمة ليست لأحد من البشر إلا الأنبياء والرسل، فلو أن الإنسان لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر حتى يكون سليماً من الخطأ لتعطلت هذه الفريضة العظيمة وهي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن ينبغي للآمر والناهي أن يكون قدوة، وأن يكون على أحسن الأحوال حتى يكون لكلامه الأثر عند من يأمرهم وينهاهم، ولو أن الإنسان لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى يسلم من الخطأ فمن يعظ العاصين بعد محمد ﷺ ؛ لأنه كما قلنا لا عصمة لأحد إلا للأنبياء والرسل..
ولذلك فقد قيل للحسن: “إن فلانا لا يعظ ويقول: أخاف أن أقول مالا أفعل، فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول، ود الشيطان أنه ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر”..
وقال سعيد بن جبير: “لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر”.
من ذا الذي ما ساء قط | ومن له الحسنى فقط |
وخطب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يوماً فقال في موعظته: إني لأقول هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي فاستغفر الله وأتوب إليه.
وكتب إلى بعض نوابه على بعض الأمصار كتابا يعظه فيه وقال في آخره: وإني لأعظك بهذا وإني لكثير الإسراف على نفسي غير محكم لكثير من أمري، ولو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم نفسه إذا لتواكل الخير، وإذا لرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا لاستحلت المحارم وقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة في الأرض، والشيطان وأعوانه يودون أن لا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر، وإذا أمرهم أحد أو نهاهم عابوه بما فيه وبما ليس فيه كما قيل:
وأعلنت الفواحش في البوادي | وصار الناس أعوان المريب |
إذا ما عبتهم عابوا مقالي | لما في القوم من تلك العيوب |
وودوا لو كففنا فاستوينا | فصار الناس كالشيء المشوب |
وكنا نستطب إذا مرضنا | فصار هلاكنا بيد الطبيب5. |
وعليه فإن على الإنسان أن يسعى في إصلاح نفسه، ثم في إصلاح غيره، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}سورة الأعراف(170)، ومتى ما اشتغل الإنسان بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإخلاص في ذلك فإن الله سيعينه على التخلص من أخطائه، وسيكون اشتغاله بالدعوة إلى الله سبباً من أسباب ثباته، ودوام استقامته على مراد الله.
بعض فوائد الحديث
يستفاد من هذا الحديث عدة فوائد من أهمها:
1. الوعيد الشديد في حق من خالفت أفعاُله أقوالَه، أي في حق من يأمر بالمعروف ولا يعمل به، وينهى عن المنكر ويرتكبه..
2. وجوب العمل بالعلم؛ ذلك أن الغرض من التعلم هو العمل به ابتغاء مرضات الله-تبارك وتعالى-.
3. التحذير من النفاق، ومن سلوك طريق المنافقين، ذلك أن النفاق إظهار الإنسان خلاف ما يبطن، وهذا الذي عذب هذا العذاب أظهرت أفعاله غير أقواله.
4. أن على الإنسان أن يبدأ أولاً بإصلاح نفسه، ومجاهدته على الاستقامة على أمر الله،وذلك بأن يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي.
5. أنه يجب على الإنسان أن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، حتى وإن لم يكن عاملاً بكل يأمر به أو ينهى عنه؛ لأن الإنسان معرض للخطأ وللزلل، ولم يعصم من ذلك إلا الرسل والأنبياء، ذلك أن البعض من الناس لما يسمع مثل هذه النصوص ربما يسبب له إحباط فيترك الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة أنه مقصر، وأنه غير عامل بكل يأمر به، وغير تارك لكل ما ينهى عنه، ولا شك أن تقصيره في العمل بما يدعو إليه خطأ، وتركه للدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خطأ آخر..
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.