هل يبقى من درنه شيء

هل يبقى من درنه شيء؟

 

الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين، جامع الناس ليوم الدين, الحمد لله الذي عزَّ فارتفع، وعلا فامتنع، وذلَّ كل شيء لعظمته وخضع، لا راد لما قدَّر وأراد، ولا مغير لحكمه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا رب سواه, والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، المبعوث رحمة للعالمين, محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الكرام، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فمن المعلوم أن هذا العنوان سؤال سأل به النبي – صلى الله عليه وسلم – ليقرِّب إلى الأذهان عفو وكرم ربه – تبارك وتعالى – الكريم المنان, حين جلس مع أصحابه فسألهم: ((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء!! قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا))1, وفي هذا شبه النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة بالنهر, وشبَّه المصلي بالمغتسل, وشبَّه الذنوب والخطايا بالدرن والأوساخ, فالذي يغتسل كل يوم خمس مرات لا بد أن يذهب عنه الدرن, وكذلك الصلاة من حافظ عليها فإنها تُذهب عنه السيئات قال الله – تبارك وتعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}2, وهكذا كشف – تبارك وتعالى – وجهاً من حكمته في القيام بالصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل وهي أن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر، ولكن ما هي الحسنة وما هي السيئة في الآية؟

الحسنة هي ما رتب الله – تبارك وتعالي – على عملها ثواباً، والسيئة هي ما جعل الله – تبارك وتعالى – على عملها عقاباً, وبوَّب الإمام النووي – رحمه الله – في صحيح مسلم "باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر", وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يقول: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر))3, فالصلاة شأنها عظيم حيث هي الركن الثاني من أركان الإسلام, وهي ركن هام، وفرض فرضه الله من فوق سبع سماوات لأهميته، وأُسري بالنبي – صلى الله عليه وسلم – من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى بيت المقدس في فلسطين، ثم عُرج به إلى السماوات العُلا؛ لتفرض عليه من فوق سبع سماوات قال الله – تبارك وتعالى -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}4.

أمانة عظيمة ويل لمن ضيعها، من تركها فقد كفر بنص حديث سيد البشر محمد الأغرّ – صلى الله عليه وسلم – عن عبد الله بن بريدة عن أبيه – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر))5, وعن جابر – رضي الله عنه -: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة))6, وقال الله – تبارك وتعالى – عن أصحاب الجحيم في تصوير حالهم عندما يسألهم أصحاب اليمين: ما سلككم في سقر؟ فيجيبون: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}7, وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: "كان أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة" قال أبو عيسى: سمعت أبا مصعب المدني يقول: "من قال الإيمان قول يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه"8, وقال الإمام الشوكاني – رحمه الله – معلقاً على هذا الأثر: "والظاهر من الصيغة أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة"9, ويترتب على ذلك: ألاَّ يزوج لأنه كافر، وإن كان متزوجاً بطل نكاحه، ولا يغسل إذا مات، ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث، ولا يجوز الاستغفار له بعد موته، فلا يجوز أن نقول: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه؛ لأن الله – تبارك وتعالى – يقول في كتابه الكريم: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}10, فكيف بمن يترك الصلاة، يترك الصلة بينه وبين ربه – تبارك وتعالى -، وكيف بمن لا يصليها مع المسلمين وإنما يصليها في بيته، نقول لهذا المعرض عن المساجد: قد فَوَّتَّ على نفسك أجراً عظيماً، وارتكبت إثماً مبيناً، فإن رب العزة والجلال يقول في محكم التنزيل: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}11, وهو القائل – جل جلاله العظيم في سلطانه -: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ}12.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يجعلنا ممن يقيمها بأركانها وشروطها كما كان يفعل نبينا – صلى الله عليه وسلم -, ونسأله أن يردَّ ضال المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يوفق الأمة لأداء شعائر الدين بمنِّه وكرمه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير البشر من قام حتى تفطرت منه القدمان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.


 


1 رواه مسلم برقم (667).

2 سورة هود (114).

3 رواه مسلم برقم (233).

4 سورة الإسراء (1).

5 رواه الترمذي برقم (2621)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب؛ والنسائي برقم (463)؛ وابن ماجة برقم (1079)؛ وصححه ابن حبان في صحيحه برقم (1454)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناد جيد؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (884)؛ وفي صحيح الترغيب والترهيب برقم (564).

6 رواه مسلم برقم (82).

7 سورة المدثر (43).

8 رواه الترمذي برقم (2622)؛ وقال النووي: إسناده صحيح في رياض الصالحين برقم (382)؛ وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2622).

9 نيل الأوطار (1/363).

10 سورة التوبة (113).

11 سورة البقرة (43).

12 سورة النور (36-37).