الأذان في السفر

الأذان في السفر

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

من الأحكام المتعلقة بالأذان والإقامة أحكام الأذان في السفر، وأحواله، وفيما يلي بيان ذلك بإذن الله تعالى:

المسألة الأولى: حكم الأذان والإقامة في السفر للجماعة والمنفرد:

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: اتفق الفقهاء على أنه يستحب الأذان والإقامة في السفر للجماعة والمنفرد، وبه قال الحنفية1، والشافعية2، والحنابلة3، والمالكية4، واستدلوا بما يلي:

أولاً بالمنقول:

1- حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: أتى رجلان النبي صلى الله عليه وسلم يريدان السفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنتما خرجتما فأذِّنا، ثم أقيما، ثم ليؤمكما أكبركما)) رواه البخاري (630).

2- حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان الرجل بأرض قَيٍّ (وهي الأَرض القَفْر الخالية) فحانت الصلاة فليتوضأ، فإن لم يجد ماء فليتيمم، فإن أقام صلى معه ملكاه، وإن أذن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يرى طرفاه))5.

3- حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يعجب ربك عز وجل من راعي غنم في رأس الشظية للجبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم، يخاف شيئاً، قد غفرت له، وأدخلته الجنة))6.

4- حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله، قال: ((أخاف أن تناموا عن الصلاة)) قال بلال: أنا أوقظكم، فاضطجعوا، وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس فقال: ((يا بلال أين ما قلت))، قال: ما أُلقيت عليَّ نومة مثلها قط، قال: ((إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردَّها عليكم حين شاء، يا بلال قم فأذن بالناس بالصلاة)) فتوضأ، فلما ارتفعت الشمس وابياضت قام فصلى. رواه البخاري (595) ومسلم(681).

5- حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك، أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري (609).

ثانياً بالمعقول:

1- أن الأذان والإقامة من لوازم الجماعة المستحبة، والسفر لم يسقط الجماعة، فلا يسقط ما هو من لوازمها؛ فإن صلوا بجماعة وأقاموا وتركوا الآذان أجزأهم ولا يكره.

2- أن الأذان للإعلام بدخول وقت الصلاة ليحضروا، والقوم في السفر حاضرون، فلم يكره تركه لحصول المقصود بدونه7.

القول الثاني: أنهم بالتخيير إن شاؤوا أذنوا وأقاموا، وإن شاؤوا أقاموا فقط وبه قال عروة والثوري8.

واستدلوا:

1- بما جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال في المسافر: "إن شاء أذن وأقام، وإن شاء أقام"9.

2- وما جاء أن ابن عمر رضي الله عنهما كان لا يزيد على الإقامة في السفر في الصلاة إلا في الصبح، فإنه كان يؤذن فيها ويقيم، ويقول: إنما الأذان للإمام الذي يجتمع إليه الناس10.

3- وعن أبى الزبير قال: سألت ابن عمر أؤذن في السفر؟ قال: لمن تؤذن للفأر11.

4- وعن هشام بن عروة أن أباه قال له: إذا كنت في سفر فإن شئت أن تؤذن وتقيم فعلت، وإن شئت فأقم ولا تؤذن12.

القول الثالث: أنهم إذا كانوا رفاقاً أذنوا وأقاموا، وإذا كان وحده أقام للصلاة وبه قال إبراهيم النخعي، وقال الحسن وابن سيرين: تجزئه الإقامة13.

القول الرابع: أنه لا يستحب، وهو رواية عن مالك فقال: "وليس الأذان إلا في مساجد الجماعة، ومساجد القبائل، بل والمواضع التي تجمع فيها الأئمة، فأما ما سوى هؤلاء من أهل السفر والحضر فالإقامة تجزئهم في الصلوات كلها"14.

القول الخامس: أنهما واجبان، وهو قول أهل الظاهر15، وقال عطاء بن أبي رباح: "إذا كنت في سفر ولم تؤذن ولم تقم فأعد الصلاة"16، وبه قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

واستدلوا: بحديث مالك بن الحويرث "فقد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يؤذن لهم أحدهم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الأذان ولا الإقامة حضراً ولا سفراً، فكان يؤذِّن في أسفاره، ويأمر بلالاً رضي الله عنه أن يؤذن، فالصواب: وجوبه على المقيمين والمسافرين"17، وفي رواية أشهب عن مالك إن ترك الأذان مسافر عمداً أعاد الصلاة.18

الترجيح:

من خلال عرض الأقوال والأدلة يتبين أن القول الأول هو الراجح والله أعلم، وحاصله: أنه يستحب الأذان والإقامة في السفر، وذلك لما يلي19:

1- أن الأحاديث دلَّت على أن الأذان والإقامة من شأن الصلاة لا يدعها مسافر ولا حاضر.

2- أثبتت الأحاديث أن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الأذان والإقامة للصلوات في السفر، وأثبتت أيضاً أمره بذلك.

3- أن المقصود من الأذان لم ينحصر في الإعلام، بل كل منه، ومن الإعلام بهذا الذكر نشراً لذكر الله ودينه في أرضه، وتذكيراً لعباده من الجن والإنس الذين لا يرى شخصهم في الفلوات من العباد، وإظهاراً لشعائر الإسلام.

المسألة الثانية: حكم ترك الأذان دون الإقامة:

إذا ترك المسافر الأذان دون الإقامة فقد اتفق الفقهاء أنه لا يكره ذلك20.

المسألة الثالثة: حكم ترك الإقامة في السفر:

إذا ترك المسافر الإقامة في السفر فقد صرح فقهاء الأحناف بكراهة ذلك، قال الكاساني: "ويكره لهم ترك الإقامة"21، أما ابن عبد البر رحمه الله فقال: "واتفق الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري على أن المسافر إن ترك الأذان عامداً أو ناسياً أجزأته صلاته، وكذلك لو ترك الإقامة عندهم – وهم أشد كراهية لتركه الإقامة -"22، وقال مجاهد: "إذا نسي الإقامة في السفر أعاد"23، قال ابن رجب: "وهذا يدل على أنه رآها شرطاً في حق المسافر وغيره "24.

واستدلوا:

1- بأن من ترك الأذان والإقامة في السفر فقد خالف الأمر المذكور في حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.

2- أن السفر سبب الرخصة، وقد أثر في سقوط شطر فجاز أن يؤثر في سقوط أحد الأذانين إلا أن الإقامة آكد ثبوتاً من الأذان، فيسقط شطر الأذان دون الإقامة.25

3- ما جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال في المسافر: "إن شاء أذن وأقام، وإن شاء أقام"، ووجه الدلالة: أنه لا يرى بأساً بترك الأذان في السفر، دون الإقامة.26

هذه جملة من أحكام الأذان والإقامة في السفر، نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، ويجنبا معاصيه، والحمد لله رب العالمين.


 


1 بدائع الصنائع (1/153).

2 الحاوي الكبير (2/105).

3 المغني (1/461).

4 شرح مختصر خليل (3/134).

5 رواه عبدالرزاق في المصنف رقم (1955)، وابن أبي شيبة رقم (2278) موقوفاً، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (249).

6 رواه الإمام أحمد (16801)، وصححه الأرناؤوط.

7 بدائع الصنائع (1/153).

8 المغني (1/461).

9 رواه البيهقي برقم (2021).

10 رواه البيهقي (2020)، ومالك في الموطأ (237).

11 رواه البيهقي (2021).

12 رواه مالك (238).

13 المغني (1/461).

14 المدونة (1/119).

15 الاستذكار (1/400).

16 طرح التثريب (3/65).

17 الشرح الممتع (2/44).

18 الاستذكار (1/400).

19 أحكام الأذان والنداء والإقامة (ص303).

20 بدائع الصنائع (1/153)، والحاوي الكبير (2/109)، والإنصاف (1/406).

21 بدائع الصنائع (1/153).

22 الاستذكار (1/401).

23 طرح التثريب (3/65).

24 فتح الباري (3/545).

25 بدائع الصنائع (1/153).

26 أحكام الأذان والنداء والإقامة (ص304).