إنما الصبر عند الصدمة الأولى

إنما الصبر عند الصدمة الأولى

 

الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, الحمد لله الذي يقدر ما يشاء ويختار، أشهد أن لا إله معه، ولا رب سواه, وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام ما تعاقب الليل والنهار؛ وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن المتأمل في هذه الحياة الدنيا يدرك أنها لا تستقر على حال, فلا يدوم فيها سرور ولا حزن, أفراحها ممزوجة بأتراح, يفرح الإنسان بأمر من الأمور وما هي إلا لحظات حتى يتبدل الفرح حزناً.

ويعلم أيضاً أن الدنيا دار ابتلاء, بينما الإنسان في عافية مطمئن بها؛ إذ هجم عليه المرض, وبينما هو جالس بين أولاده يضاحكهم ويضاحكونه؛ إذا نزل به أو بأحدهم هادم اللذات ومفرق الجماعات, فتبدل الفرح حزناً، والضحك بكاءً.

وإن للمصائب وقع شديد على النفوس، وأثر عظيم فيها, ولذا جعل الله – تبارك وتعالى – ثواب الصبر على المصيبة عظيم جداً قال الله – تبارك وتعالى -:{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}1, وإنما يكون الصبر عند الصدمة الأولى فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: مرَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بامرأة تبكي عند قبر، فقال: ((اتقي الله واصبري))، قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي – صلى الله عليه وسلم -، فأتت باب النبي – صلى الله عليه وسلم – فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))2, فما أشد وقع المصيبة على النفس البشرية, وما أفجعها عندما تكون بعزيز غالٍ، أو ولد حبيب، إنها إذن لخطب جلل، وكارثة عظيمة يضيق بها الصدر، ولا تتحملها النفس البشرية؛ فهي مصيبة بما تحمله الكلمة من معانٍ, كارثة, فجيعة….إلخ، ولكن ما أعظم هذا الدين، وما أكمله, وما أشمله، حين يداوي هذه النفوس الجزعة، والصدور الضيقة؛ بما يخفف عنها من وقع هذه المصيبة، وألم تلك الحادثة.

والمؤمن يعتقد اعتقاداً جازماً بقضاء الله وقدره, وأن كل ما وقع في هذه الحياة من خير أو شر, ومن نفع أو ضر؛ إنما هو بقضاء منه – تبارك وتعالى – وتقدير، فيرضي بحكم الله صابراً محتسباً، طمعاً في مرضاة الله – تبارك وتعالى -، وإلى هذا المعنى تشير الآية {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}3، وعلى الإنسان أن يكون في حاله مع المصيبة مراعياً لثلاثة أمور هي:

أولاً: أن يفوض الأمر لله – تبارك وتعالى -, وذلك لأن الله بيده كل شيء, وهو المتصرف في كل شيء، فلا يفعل شيئاً إلا لحكمة قدَّرها سبحانه {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}4.

ثانياً: أن يتوكل على الله – تبارك وتعالى -, فالتوكل على الله – تبارك وتعالى -، وتفويض الأمور إليه؛ دليل على صدق الإيمان وقوته قال الله – تبارك وتعالى -: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}5.

ثالثاً: أن يعلم أن قضاء الله – تبارك وتعالى – كله خير, وأن لا يقدم المقترحات على رب الأرض والسماوات, فبعض الناس إذا أصابه أمر قال: لو أن الله فعل كذا وكذا لكان خيراً – نعوذ بالله -، وقد قيل: أن رجلاً كان يسكن في البادية، وكان من العارفين، فاتفق له ذات يوم أن مات حماره, وكلبه, وديكه, فأتي إليه أهله فقالوا: له حين مات الحمار مات حمارنا, فقال: خيراً, ثم قالوا: مات الكلب, فقال: خيراً، ثم قالوا: مات الديك فقال: خيراً، فغضب أهل الدار, وقالوا: أي: خير في هذا، متاعنا ذهب ونحن ننظر، فاتفق أن بعض العرب ضربوا على ذلك الحي في تلك الليلة فاجتاحوا كل ما فيه, وكانوا يستدلون على الخيام بنهيق الحمار, ونباح الكلاب, وصراخ الديكة, فأصبحت خيمته سالمة إذ لم يكن بقي من يفضحها، فانظر كيف كان حسن نظر الحق لأوليائه، وحسن تدبيره لهم"6.

وعلى العبد أن يعلم أن كل ما قدَّره الله – تبارك وتعالى – فإن فيه الخير، لأن الله – تبارك وتعالى – حكيم خبير، يعلم كل شيء، ولا يفعل شيئاً إلا لحكمة أرادها سبحانه, وعلى الإنسان التسليم لكل ما أراد الله قال الله – تبارك وتعالى -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً}7، وهذا هو فائدة الإيمان بالقضاء والقدر أن تُخَفَّفَ المصيبة على قلب الإنسان بسبب اعتقاده أنها بإرادة الله – تبارك وتعالى – ومشيئته، بينما الكافر ينفذ صبره, ويضيع رشده, ولربما أضاع حياته أيضاً بالانتحار لأنه ليس لديه ما يسليه، أو يعزيه، أو يخفف المصاب عنه.

ولقد كان جزاء الصبر عند الله – تبارك وتعالى – عظيماً قال الله – تبارك وتعالى -: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}8, وقال الله – تبارك وتعالى -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}9, وعن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يقول الله – تعالى -: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة))10, فاستحق الأجر العظيم بحبسه لنفسه على ما تكره، وصونه لها عن ما يغضب الله، ومقاومته للنوازع الفطرية في نفسه؛ فأجزل الله له المثوبة، وأعظم الله له الأجر.

ومع كثرة المصائب والشدائد والمحن في هذه الأيام العصيبة من فقد للأحبة والأصدقاء, وغلاء للأسعار, وضنك في العيش، وكثرة للمنكرات, وبعد عن شريعة الرحمن وغير ذلك؛ فليكن الصبر خيارنا ما دمنا على وجه الأرض, وليكن الرضا بالقضاء والقدر شعارنا، مع تغيير ما يمكن تغييره.

فعليك أخي في الله أن تصبر إذا قدَّر الله – تبارك وتعالى – عليك أمراً، وعليك أن تعلم أن ذلك كله بقضاء الله وقدره, فتسلِّم لأمر الله – تبارك وتعالى – لينشرح صدرك, وعليك أن تعلم أن بعض ما أصابك قد يكون ابتلاءً من الله – تبارك وتعالى – لرفع درجتك عنده إن صبرت واحتسبت كما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – السابق, وحديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة))11 يريد عينيه.

وعليك أن تعلم أن الله – تبارك وتعالى – يُحب الصابرين قال الله – تبارك وتعالى -: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}12.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يرزقنا الصبر والاحتساب عند نزول البلاء, ونسأله الفردوس الأعلى من الجنة, ونسأله لذة النظر إلى وجهه الكريم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


 


1 سورة الزمر (10).

2 رواه البخاري برقم (1223)؛ ومسلم برقم (926).

3 سورة الحديد (23-22).

4 سورة الأعراف (54).

5 سورة المائدة (23).

6 إيقاظ الهمم شرح متن الحكم (100).

7 سورة الأحزاب (36).

8 سورة الزمر (10).

9 سورة البقرة (155- 157).

10 رواه البخاري برقم (6060).

11 رواه البخاري برقم (5329).

12 سورة آل عمران (146).