إن الحسنات يذهبن السيئات
الحمد لله غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب، لا إله إلا هو إليه المرجع والمآب، والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه وقفة قصيرة نقفها معكم – أيها الإخوة -، ومع آية من كتاب الله ، بل مع جزء من آية وهو قوله – تعالى -: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (سورة هود:114)؛ ولهذه الآية – أيها الأحبة – سبب نزول؛ فعن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إني عالجت امرأة (أي تناولها، واستمتع بها) في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها (المراد بالمس الجماع، ومعناه استمتعت بها بالقبلة، والمعانقة وغيرهما من جميع أنواع الاستمتاع إلا الجماع)1، فأنا هذا فاقض فيَّ ما شئت، فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت نفسك، قال: فلم يرد النبي ﷺ شيئاً، فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبي ﷺ رجلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ؛ فقال رجل من القوم: يا نبي الله هذا له خاصة؟ قال: بل للناس كافة2، وهذا الحكم يعم جميع المسلمين في كل زمان ومكان؛ لقوله: بل للناس كافة.
وعن أنس بن مالك قال: كنت عند النبي ﷺ فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه؟ قال: وحضرت الصلاة، فصلَّى مع النبي ﷺ، فلمَّا قضى النبيُّ ﷺ الصلاةَ، قام إليه رجل فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فأقم فيَّ كتاب الله، قال: أليس قد صليت معنا؟، قال: نعم، قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك أو قال: حدك3. وقد جاءت آيات وأحاديث كثيرة تبين أهمية التوبة، وضرورة اتباع السيئة بالحسنة، وأن الحسنات تمحو السيئات؛ قال الله – تعالى -: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (سورة الفرقان:68-70) وقال تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ (سورة الأعراف:95)، وعن معاذ بن جبل أنَّ رسول الله ﷺ قال: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن4، وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلك الرباط، فذلكم الرباط5.
وأنت – أيها الأخ المبارك – أتبع السيئة الحسنة تمحها، وكلما وقعت بذنب أو معصية أكثر من فعل الخيرات، تصدق، وأطعم المساكين، صلي ركعتين، أحسن إلى الوالدين، احرص على كل خير؛ فإنَّ الله يقول: إن الحسنات يذهبن السيئات، والرسول ﷺ يقول: وأتبع السيئة الحسنة تمحها6، فكلما وقعتَ في ذنب أو معصية تب إلى الله، وإياك، إياك من المللَ من التوبةِ، ولو تبت من الذنبِ الواحدِ آلف مرةٍ، واحذر من ضعف النفس، وحيل الشيطان؛ فربما يحدُثك الشيطان أنك منافقٌ أو مخادعٌ لله بكثرةِ توباتك، والمهم أن تكون صادقاً في التوبة والندم والإقلاع، وكلما رجعت للذنبِ بضعفٍ النفس ارجع للتوبة، قال الإمام النووي – رحمه الله -: باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت التوبة7، وفي الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة أنَّ الله قال لذلك الرجل الذي تكرر منه الذنب فكرر التوبةَ، فقال الله له: علم عبدي أن له ربُ يغفر الذنبَ، ويأخذَ به، غفرتُ لعبدي، غفرتُ لعبدي، غفرتُ لعبدي، فليفعل ما شاء8. وعن عقبة بن عامر أن رجلاً أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إن أحدنا يذنب، قال الرسول : يكتب عليه، قال الرجلُ: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: يغفرُ له، ويتابُ عليه، قال: فيعودُ فيذنب، قال الرسولُ: يكتب عليه، قال الرجل: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: يغفرُ له، ويتابُ عليه، قال: فيعودُ فيذنب، قال ﷺ : يكتبُ عليه، ولا يملُ اللهُ حتى تملوا9.
فيا أخي الكريم: إياك وإهمال التوبة مهما كانت معاصيك، والمهم أن تكون جاداً في التوبة، صادقاً فيها، أغلق أبواب الشيطان، وسد المنافذ، وافعل الأسباب؛ وستجد أثر ذلك على قلبك.
أيها الأخ الحبيب، ويا أيتها الأخت الغالية: لستِ بعيدة، وإنك لقريب جداً، إن السعادةَ بالاستقامة وأنت قريب منها، المهم أن يكون عندك العزم والهم الصادق قال ابن القيم – رحمه الله -: “أخرج بالعزمِ من هذا الفناءُ الضيق المحشو بالآفاتِ إلى ذلك الفناءَ الرحبِ الذي فيه ما لا عين رأت، فهناك لا يتعذر مطلوب، ولا يفقد محبوب”10.
فيا أيها المحب: ارجعِ إلى فطرتِك، وإلى الخير في نفسك، وستجد أنك قريب من الهداية، والهدايةُ قريبةُ منك
فإذا استقام على الهداية ركبنا | يخضّر فوق هضابنا الإقدام |
وترف أغصان السعادة فوقنا | وتزول من أصقاعنا الأسقام11 |
وفي الأخير هناك تنبيه مهم جداً وهو: أنَّ السيئات التي تمحها وتكفرها الحسنات إنما هي صغائر الذنوب، وأما كبائر الذنوب فإنه لا بد لها من توبة خاصة بها، والدليل ما رواه أبو هريرة عن النبي ﷺ قال: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفرات لما بينهنَّ ما اجتنبت الكبائر12، وعن عثمان عن النبي ﷺ قال: ما من امرىءٍ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها؛ إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله13. نسأل الله أن يتوب علينا إنه هو التواب الرحيم، ربنا تقبل منَّا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
1– تعليق: محمد فؤاد عبد الباقي، على صحيح مسلم (4 /2115)، الناشر : دار إحياء التراث العربي – بيروت.
2– رواه مسلم.
3– أخرجه مسلم.
4– رواه الترمذي وقال حديث حسن وأحمد والحاكم، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (97).
5– رواه مسلم.
6– سبق تخريجه.
7– شرح النووي على مسلم (17 /75). الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت. الطبعة الثانية (1392هـ).
8– أخرجه البخاري.
9– أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، والمعجم الأوسط للطبراني.
10– راجع الفوائد، صـ(42).الناشر: دار الكتب العلمية- بيروت. الطبعة الثانية (1393هـ).
11– بتصرف من شريط: “المحرمون” لفضيلة الدكتور/ إبراهيم بن عبد الله الدويش – حفظه الله -.
12– رواه مسلم.
13– رواه مسلم.