بـدع صفر

بـدع صفر

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الكريم، محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في مجتمع جاهلي، مليء بالخرافات والشركيات والبدع، ولقد استطاع بفضل الله تعالى أن يقتلع تلك الأمور الجاهلية، وأن يزرع التوحيد والإيمان بالله والتوكل عليه في نفوس المؤمنين، وخرَّج أفضل جيل عرفته البشرية؛ جيل الصحابة رضي الله عنهم، من بلغوا القمة العالية في الإيمان بالله تعالى والتوكل عليه.

واليوم – وللأسف الشديد- عادت كثير من مظاهر وصور الجاهلية القديمة إلى أوساط المسلمين فنرى كثيراً من أبناء المسلمين ممن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقدون بل ويمارسون كثيراً من مظاهر وانحرافات الجاهلية العقدية. وما ذلك إلا بسبب جهلهم الشديد بالدين الإسلامي وبعدهم عنه، ومن ذلك بدعة التشاؤم من شهر صفر. فقد كانت هذه البدعة موجودة في الجاهلية قبل مجيء الإسلام، ولقد أدرك ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وعالج هذا الاعتقاد المنحرف الخاطئ واستطاع أن يقلعه من نفوس المسلمين، واليوم نراه موجوداً منتشراً في كثير من البلدان الإسلامية.

روى البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى ولا صفر ولا هامة) فقال أعرابي: يا رسول الله فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها يجربها؟! فقال: (فمن أعدى الأول؟). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر) متفق عليه. وفي رواية لمسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا غول… ولا صفر). وروى الإمام أحمد والترمذي وصححه الألباني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا يعدي شيء شيئاً، فقال أعرابي: يا رسول الله: البعير أجرب الحشفة ندبنه فيجرب الإبل كلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( فمن أجرب الأول؟ لا عدوى ولا صفر، خلق الله كل نفس فكتب حياتها ورزقها ومصائبها). فقوله صلى الله عليه وسلم: ولا صفر: اختلف في تفسيره فقال كثير من المتقدمين أنه داء في البطن، يقال: إنه دود فيه كبار كالحيات، وهو أعدى من الجرب عند العرب فنفى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

وقيل المراد بالصفر: الحية، لكن المراد بالنفي نفي ما كانوا يعتقدون أن من أصابه قتله، فرد الشارع ذلك بأن الموت لا يكون إلا إذا فرغ الأجل. وقالت طائفة: بل المراد بصفر هو شهر صفر، ثم اختلفوا في تفسيره على قولين:

1. أن المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، فكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه. وهذا قول الإمام مالك.

2. أن المراد أن أهل الجاهلية كانوا يتشاءمون بصفر ويقولون إنه شهر مشئوم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ورجح هذا القول ابن رجب الحنبلي.1

وهذا هو الواقع اليوم في كثير من الأماكن، أن كثيراً من الناس يتشاءم من هذا الشهر، فلا يتزوج ولا يزوج في هذا الشهر، ولا يعقد فيه صفقة بيع وشراء، وإذا جاءه مولود في هذا الشهر فإنه يتشاءم منه.

وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم التشاؤم بهذا الشهر؛ لأن التشاؤم بصفر من الطيرة المنهي عنها لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا طيرة) وقوله عليه الصلاة والسلام: (الطيرة شرك، الطيرة شرك) فلا يجوز التشاؤم من هذا الشهر والأيام كلها أيام الله. وأما ما يصنعه الجهال من التحذير من السفر في هذا الشهر، أو قول بعضهم: أنه ينزل في كل سنة ثلاثمائة وعشرون ألفاً من البليات، وكل ذلك في يوم الأربعاء الأخير من صفر، فيكون ذلك اليوم أصعب أيام السنة كلها، فمن صلّى في ذلك اليوم أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، وسورة الكوثر سبع عشرة مرة. والإخلاص خمس عشرة مرة، والمعوذتين مرة، ويدعو بعد السلام بهذا الدعاء وهو: بعد البسملة يقول: اللهم يا شديد القوة، ويا شديد المحال، يا عزيز، يا من ذلت لعزتك جميع خلقك، اكفني من شر خلقك، يا محسن يا مجمل يا متفضل، يا منعم يا متكرم، يا من لا إله إلا أنت، ارحمني برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم بسر الحسن وأخيه وجده وأبيه وأمه وبنيه، اكفني شر هذا اليوم وما ينزل فيه… إلخ) فمن قال ذلك حفظه الله بكرمه من جميع البليات التي تنزل في ذلك اليوم.

إن هذا كله من الخرافات والبدع والتوسلات الشركية، التي صنعها بعض الجهلة، فعلى المسلم أن يعلم أن شهر صفر هو كغيره من الشهور.

قال ابن رجب: وإنما الزمان كله خلق الله تعالى، وفيه تقع أفعال بني آدم، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشئوم عليه فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله.2

والحمد لله رب العالمين.


 


1– لطائف المعارف ص74.

2– لطائف المعارف ص83.