المنابر والمنائر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أمَّا بعدُ:
فإن بيوت الله في الأرض هي المساجد، وهي الدور التي تعمر بالعبادة، وعندما تكون مهيأة للمصلين يجد فيها المصلي الهدوء، والسكينة، والطمأنينة، والراحة، فيؤدي العبادة بكل خشوع، وخضوع، وتذلل لله – تبارك وتعالى -، وعليه فلا بد من أن تبنى بيوت الله وفق الضوابط الشرعية، وتُجنب كل محذور أو إثم.
المنبر:
“المنبر مرقاة الخاطب، سمي منبراً لارتفاعه، وعلوه، وانتبر الأمير ارتفع فوق المنبر”1
وهو المكان المرتفع الذي يصعد عليه الخطيب ليراه الناس وهو يحدثهم، وقد كان النبي ﷺ يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول الله ألا نجعل لك منبراً، قال: إن شئتم، فجعلوا له منبراً فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر2، وكان منبر رسول الله ﷺ ثلاث درجات3 يصعد عليها ليراه الناس وهو يخطب أو يحدثهم عن أمر مهم.
أما في عصرنا فقد استطال المنبر وامتدَّ حتى شغل حيزاً كبيراً من المسجد، فقطع الصفوف، وتفرق المصلون عنه ذات اليمين وذات الشمال، وحال دون رؤية المسلم أخاه المسلم، ودون تحاذي الصفوف وتراصها بالمناكب والأقدام، كما ضيق المكان على المصلين، وأبعدهم عن جدار القبلة4.
إضافة إلى زخرفتها بالنقوش، وكتابة الآيات والأحاديث – والتي قد يكون لا أصل لها – عليها، أو الإسراف فيها، ودفع المبالغ الهائلة في شرائها، وإعدادها، وهذا أمر غير مشروع، بل مخالف لما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه، وكذا المبالغة في رفعها حتى كأن الخطيب يريد أن يلوح لك تلويحاً لا أن يحدثك حديثاً تسمعه، فهذا مما لاشك في عدم شرعيته، ومخالفته لسنة النبي ﷺ.
فينبغي أن يكون المنبر خالياً من هذه الأمور لأن الغرض منه ارتفاع الخطيب ليتمكن الناس من رؤيته، فإذا تحقق هذا الغرض فليس هناك أي حاجة إلى هذه الزيادات التي أحدثت.
المنارة
المنارُ في اللُّغة علم الطَّريق، قال في الصِّحاح: والْمَنَارَةُ: التي يُؤَذَّنُ عليها، والمنارَة أَيضًا يُوضَعُ فَوْقَهَا السِّرَاجُ، وَهِيَ مَفْعَلَةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَالْجَمْعُ الْمَنَاوِرُ بِالْوَاوِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ النُّورِ، وَمَنْ قَالَ: مَنَائِرُ، وَهَمَزَ؛ فَقَدْ شَبَّهَ الْأَصْلَ بِالزَّائِدِ انْتَهَى. وَهُوَ شَاذٌّ، وَيُقَال لَهَا أَيْضًا: الْمِئْذَنَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ، ثُمَّ هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ، قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ، وَيَجُوزُ إبْدَالُ الْهَمْزَةِ يَاءً، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ كُرَاعٍ أَنَّهُ يُقَالُ: مَأْذَنَةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ … وهي تسمى بعض البلاد الصومة.
وقد أصبحت المنارة اليوم تُنفق عليه الآلاف المؤلفة من النقود في سبيل بنائها، وزخرفتها، والتباهي بها، قال في مواهب الجليل عند كلامه على صفة المنارة على عهد السلف: “وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ الْبُيُوتِ خِلَافًا لِمَا أَحْدَثُوهُ مِنْ تَعْلِيَةِ الْمَنَارِ”.
ولم يزل عمل المسلمين مستمرًا من مدد متفاوتة على بناء المنارات للمساجد، وغالبها تكون أَطول من البيوت المجاورة لها، إلا أن المبالغة في التعلية، والتباهي بذلك؛ من المحدث الذي لم يكن على عهد السلف، ثم قال: “وَذَلِكَ يُمْنَعُ لِوُجُوهٍ: (أَحَدُهَا): مُخَالَفَةُ السَّلَفِ (الثَّانِي): أَنْ يَكْشِفَ حَرِيمَ الْمُسْلِمِينَ (الثَّالِثُ): أَنَّ صَوْتَهُ يَبْعُدُ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَنِدَاؤُهُ إنَّمَا هُوَ لَهُمْ، وَقَدْ بَنَى بَعْضُ مُلُوكِ الْعَرَبِ مَنَارًا زَادَ فِي عُلُوِّهِ فَبَقِيَ الْمُؤَذِّنُ إذَا أَذَّنَ لَا يَسْمَعُ أَحَدٌ مِنْ تَحْتِهِ صَوْتَهُ، وَهَذَا إذَا تَقَدَّمَ وُجُودُ الْمَنَارِ عَلَى بِنَاءِ الدُّورِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الدُّورُ مَبْنِيَّةً، ثُمَّ جَاءَ بَعْضُ النَّاسِ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ الْمَنَارَ؛ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ عَلَيْهِمْ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَنَارِ وَالدُّورِ سِكَكٌ وَبُعْدٌ بِحَيْثُ إنَّهُ إذَا طَلَعَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الْمَنَارِ، وَيَرَى النَّاسَ فِي أَسْطِحَةِ بُيُوتِهِمْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْهُمْ؛ فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا – رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، فَإِذَا كَانَ الْمَنَارُ أَعْلَى مِنْ الْبُيُوتِ قَلِيلًا أَسْمَعَ النَّاسَ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُرْتَفِعًا كَثِيرًا انْتَهَى.
وإذا كان هذا الكلام على ما كان عليه الحال أنذاك؛ فإنه اليوم ومع مكبرات الصوت لو اقتصر في بنائها على قدر الحاجة، وبتكلفة يسيرة، وكان الأمر يقتضي بناءها أصلاً؛ فهذا أمر لا بأس به، لاسيما إذا كان المسجد تحيط به مبان عالية، ولا يمكن سماع الأذان إلا عن طريقها فتبنى بقدر الحاجة، ولا يُبالغ في ارتفاعها، ولا زخرفتها، لأن ذلك من الإسراف الذي نحن منهيون عنه، وأما إذا سمع الأذان بدونها فالأولى تركها.
قال العلامة محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله -: “فالذي نجزم به أن المنارة المعروفة اليوم ليست من السنة في شيء، غير أن المعنى المقصود منها – وهو التبليغ – أمر مشروع بلا ريب، فإذا كان التبليغ لا يحصل إلا بـها فهي حينئذٍ مشروعة؛ لما تقرر في علم الأصول: أن ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب، ولكن ترفع بقدر الحاجة، غير أن من رأيي أن وجود الآلات المكبرة للصوت اليوم يُغني عن اتخاذ المئذنة كأداة للتبليغ، ولاسيما أنـها تكلف أموالاً طائلة، فبناؤها والحالة هذه – مع كونه بدعة، ووجود ما يُغني عنه – غير مشروع؛ لما فيه من إسراف وتضييع للمال، ومما يدل دلالة قاطعة على أنـها صارت اليوم عديمة الفائدة؛ أن المؤذنين لا يصعدون إليها البتة، مستغنين عنها بمكبرات الصوت”5.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.